لم يؤدِ انتقال السلطة في البيت الأبيض الأميركي من الرئيس دونالد ترامب إلى الرئيس جو بايدن إلى توقف الصدام الأميركي الصيني عن مواصلة الدوران نحو الصفر. فالعلاقات بين الجانبين في ظل «الحزب الديمقراطي» ليست أفضل مما كانت عليه في ظل «الحزب الجمهوري»، ليس لسبب سياسي أو تنافس اقتصادي، ولا هو تنافس حول تجميع الحلفاء أو حول غزو الفضاء.. بل السبب يتعلق بأمر واحد هو الذكاء الاصطناعي والاستخدامات العسكرية له.
إن أجهزة الذكاء العسكرية تقدم معلومات وتوجيهات لغرفة العمليات العسكرية مبنية على سرعة التحليل تفوق عدة مرات سرعة العقل البشري. كما أنها تتميز بالدقة أكثر من قدرة العقل البشري أيضاً. وفي المعارك العسكرية فإن التفوق يكون حليفاً لدقة المعلومات ولسرعة التصرف.. وبالتالي لسرعة توجيه الأوامر. وتؤكد المعلومات الأميركية أن الصين حققت تقدماً كبيراً في هذا الميدان، وهو أمر كان مستبعداً حتى الأمس القريب، وأن بعض هذا التقدم يعود أساساً إلى تسريب معلومات علمية إلكترونية أميركية.
ووصل الأمر إلى درجة من الخطر بحيث أن الولايات المتحدة تعتقد الآن أن الصين تملك قدرات إلكترونية متقدمة قادرة على اختراق منظومة الأمن الإلكترونية الأميركية. وهي قدرات لا تفتقر إليها الولايات المتحدة أيضاً. غير أن الشكوك المتبادلة بين الطرفين تجعل من هذا السباق المعرفي سباقاً نحو الصدام.
فالمنظومة الإلكترونية ليست منظومة معلومات فقط، ولكنها منظومة تعليمات أيضاً. وعندما يوجه الجهاز الإلكتروني تعليمات باستخدام سلاح نووي دون المرور بالإنسان، فإن التنفيذ الفوري لا يسمح بأي شكل من أشكال إعادة النظر أو المراجعة أو أي نوع من أنواع التحفظ والتحقق. فالقرار يصبح للجهاز الإلكتروني وليس للإنسان، وبعقل إلكتروني (لا إنساني) لا يعطي فرصة للدبلوماسية أو للعامل الإنساني، كما حدث مثلاً أثناء أزمة خليج الخنازير في كوبا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
تجاوزَ العالَمُ فترةَ الحرب الباردة بسبب الشفافية التي التزم بها الطرفان الأميركي والسوفييتي، حيث كان كل طرف يعرف نسبة كبيرة من المعلومات عن قدرات الطرف الثاني نوعاً وكمّاً، وحتى عن مواقع المرابض الصاروخية. وكان ثمة تفاهم يسمح لكل طرف منهما بالتحقق من قدرات الطرف الآخر ومواقعها. ولذلك، ورغم التنافس الشديد وعدم الثقة، فإن الاتفاق الذي احترمه الطرفان طوال سنوات الحرب الباردة، أنقذهما وأنقذ الإنسانيةَ كلَّها من دفع ثمن خطأ ما من هذا الجانب أو ذاك. هذا الاتفاق ألغاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من جهة واحدة، بحجة أن موسكو لا تحترمه. وفي الأساس لا يوجد اتفاق مماثل له بين واشنطن وبيكين، لذلك تزداد الشكوك اتساعاً، وتبعاً لذلك تتضخم الترسانة النووية لكل منهما، وتتطور قدراتهما الإلكترونية لاستخدام أسلحتهما المدمرة من دون الرجوع إلى العنصر البشري والحسّ الإنساني!
يعرف الإنسان العادي بعض مظاهر التقدم الإلكتروني الذي وصل إليه العلماء من خلال السيارات الجديدة التي تقود ذاتها بذاتها، أو من خلال أجهزة التصوير الإلكترونية التي تراقب كل إنسان متحرك في كل شارع من شوارع المدينة وفي كل متجر من متاجرها وتسجيل كل حركة يقوم بها. إن هذا القدر المعروف والمعلن عن التقدم الإلكتروني في المراقبة والتتبع والذي يستخدم في المجال المدني، لا يقاس بمدى التقدم الإلكتروني الذي يستخدم في ميدان التجسس أو في الميدان العسكري.
من هنا أهمية الدعوة بعد إعادة إحياء الاتفاق الأميركي الروسي حول المراقبة المتبادلة المفتوحة، كي يتم توسيعه ويشمل دولاً أخرى تقبل التفاوض على الانضمام إليه. فالاتفاق يعطي الدول التي تمر عبرها طائرات الاستطلاع (الأميركية والروسية) حقّ الإطلاع على الصور والمعلومات التي تجمعها هذه الطائرات.. الأمر الذي يطمئن اليابان وكوريا الجنوبية، كما كان يطمئن كندا ودول شرق أوروبا.
لقد تجاوز العالَمُ الحربَ الباردة تحت مظلة الشفافية، وهو اليوم أشد حاجةً إلى هذه الشفافية منعاً لكارثة قد تحدث بسبب معلومة خاطئة أو جراء سوء تقدير.

كاتب لبناني