التاريخ معلّمٌ لا يخطئ ولا يكلّ من إعطاء الدروس والعبر، وقيمته كبيرةٌ في كل ما يتعلق به، في سرده كما جرى وفي روايته، في تأويله واستخلاص الحكمة من حراكه ومنطقه كما من دوراته وتقلباته، وهو في تطور دائمٍ لا يتوقف إيجاباً وسلباً، تقدماً وتقهقراً.
بعد أيامٍ قليلةٍ تحلّ الذكرى العشرون لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية على الولايات المتحدة الأميركية، ذكرى حزينة على أميركا والعالم، قيل عنها الكثير، كتباً وأفلاماً ووثائقياتٍ، وقبل أيامٍ قليلةٍ بثت منصة «آبل» فيلماً وثائقياً بعنوان «11 سبتمبر: داخل غرفة حرب الرئيس»، تحدث فيه جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني ومقربون منه عن الساعات، التي تلت وقوع تلك الحادثة، وكم كانت أميركا مكلومةً وخائفةً ومتفاجئةً من هول الصدمة.
المشكلة الوحيدة أن هذا الوثائقي تمّ بثه والعالم متفاجئ من هول صدمة الانسحاب الأميركي المستعجل وغير المبرر من أفغانستان وتسليمها لـ«حركة طالبان» مع كمياتٍ أسلحةٍ متطورةٍ ونوعيةٍ ستشكل خطراً حقيقياً على العالم في المستقبل القريب، بعض رجالات الجيش الأميركي متفاجئون ويتذمرون، وبعض رجالات السياسة الأميركيين من الحزب «الديمقراطي» فضلاً عن «الجمهوري» متفاجئون، وأقوى حلفاء أميركا في الدول الأوروبية متفاجئون في ألمانيا وفرنسا وحول العالم، والأكثر تفاجؤاً كانت بريطانيا، الحليف الأصدق والأقرب لأميركا، وقد تحدث وزير دفاعها «بن والاس» ونقلته صحيفة «الجارديان» العريقة قائلاً: «القوة العظمى غير المستعدة للالتزام بشيء، ما قد لا تكون على الأرجح قوة عظمى».
الأفعال لا الأقوال، هي التي تفرض هيبة الدول لدى خصومها وترفع الثقة بها لدى حلفائها، وحين تفرط الإمبراطوريات في ذلك، فإنها تعطي إشاراتٍ واضحةٍ للطرفين بالتحرك، للخصوم بفرض قوةٍ دوليةٍ بديلةٍ وللحلفاء للبحث عن توازنات سياسية، توفر الحماية المطلوبة وتحمي المصالح، وأول المتحركين كان الاتحاد الأوروبي الذي بدأ العمل سريعاً على بناء قوة تدخلٍ خارج حلف الناتو الذي تقوده أميركا.
الانسحاب المرتبك شواهده ظاهرة في تصريحات المسؤولين، وكل القرارات المتعلقة به من ترك الأسلحة بكميات هائلة ومخيفة إلى التخبط في عمليات الإجلاء إلى شرح تفاصيل ورؤية هذا الفعل، وكأن الانسحاب بحد ذاته نصر مؤزر لا يحتاج شرحاً ولا تأويلاً، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.
يمكن لأي قارئ للتاريخ اكتشاف حقيقة صعود الامبراطوريات وأفولها، وأميركا فرضت نفسها على المشهد الدولي كأقوى إمبراطورية عرفها التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية وتوّجت توحّدها وتفردها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكنها أخذت وخلال أقلّ من ثلاثة عقودٍ وهي فترة زمنية وجيزة في عمر التاريخ بالتراجع والانسحاب والانعزال، وبعض المواقف للتذكير فقط قد تركت روسيا تأخذ «جزيرة القرم» دون جدالٍ وتتدخل في شرق أوكرانيا دون موقفٍ ثم تدخل سوريا فارضةً مواقع نفوذٍ جديدةٍ كلياً وتغير موازين القوى الدولية.
«الاتفاق النووي» قرأه الكثيرون خضوعاً وانهزاميةٍ، ومحاولات إعادة إحيائه متعثرة بسبب الضعف لا بسبب القوة، والخطير هو أنه مع تراجع قوة الإمبراطورية الأميركية، فإنها لا تريد التفريط في مصالحها مع حلفائها، وتمارس ضغوطاً عليهم لإجبارهم على البقاء معها، وهي تتخلى عنهم، معادلةٌ عجيبة بالفعل، وفي التاريخ عجبٌ.
عشرون عاماً مدةٌ قصيرةٌ للانتقال من موقف بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا» إلى هذا الانسحاب السريع والمرتبك، وإذا كان الاستقرار والاستمرارية أحد عوامل قوة الدول فهو في الإمبراطوريات أصدق وأبلغ تأثيراً.
أخيراً، فينقل زبجنيو بريجينسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» قول دونالد بوتشالا: «إن الإمبراطوريات لا تسقط، بل تتساقط، ويتم ذلك عادةً بشكل بطيء جداً وقد يحدث أحياناً أن يتم بسرعةٍ ملحوظةٍ».

 كاتب سعودي