لعبت المناطق الحرة في بعض دول مجلس التعاون الخليجي دوراً محورياً في التنمية الاقتصادية، وساهمت مساهمة فعالة في تطوير بعض القطاعات، مثل قطاع الصناعات التحويلية والتجارة، وبالأخص إعادة التصدير، حيث قدمت دولة الإمارات نموذجاً ناجحاً في هذا المجال. ومما ساهم في التقدم السريع للمناطق الحرة، هو الملكية الأجنبية الكاملة بنسبة 100% وسهولة إصدار الرخص التجارية، واستقدام الأيدي العاملة والخدمات اللوجستية المتطورة.
واستمر زخم هذه المناطق على مدى ثلاثة عقود، إلا أن التغيرات الاقتصادية والتجارية العالمية السريعة، والرامية إلى تقديم المزيد من التسهيلات للاستثمارات الأجنبية، خلق أوضاعاً مستجدة دفعت بدول مجلس التعاون لسرعة الاستجابة لهذه المتغيرات، وبالأخص بعد أن برزت مناطق اقتصادية وتجارية منافسة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، فعمدت الدول الخليجية إلى تغيير أنظمتها الاستثمارية بما يتناسب وهذه المتغيرات، وذلك بهدف المحافظة على موقعها التنافسي في ظل المزيد من التحرر للأسواق الإقليمية والعالمية.
ضمن هذه التغيرات عُدِّلت تشريعات ملكية الشركات بما يمنح المستثمر الأجنبي ملكيةً كاملةً ليس في المناطق الحرة فحسب، وإنما على كامل أراضي دول المجلس. كما قدمت تسهيلات إضافية كبيرة في مجال إصدار الرخص التجارية واستقدام الأيدي العاملة، مما أدى عملياً إلى المساواة بين الاستثمارات الداخلية ومثيلاتها في المناطق الحرة، وأثار تساؤلات حول مستقبل هذه المناطق بعد أن تمت مساواتها بمتطلبات الاستثمار داخل هذه الدول.
والسؤال الرئيسي هنا هو: هل لا زالت ثمة أهمية لهذه المناطق بعد هذه التحولات؟ وما هو مستقبلها؟ من المهم الإشارة إلى أن بعض امتيازات هذه المناطق ستبقى رغم غياب الامتيازات الأساسية بعد مساواتها بمتطلبات الاستثمار الأجنبي في الداخل، فهذه المناطق توفر تسهيلات متكاملة في منطقة واحدة محددة، وهو ما يقدم للمستثمرين ميزة نسبية، كما أن قيام هذه المناطق بالقرب من الموانئ والمطارات يوفر لها تسهيلات لوجستية مهمة فيما يتعلق بالصادرات والواردات ويخفض تكاليف النقل والشحن، بالإضافة إلى البنية التحتية المتكاملة، وهي ميزة أساسية للأنشطة الاستثمارية.
مثل هذه الاعتبارات والعوامل ستحافظ على الدور التنموي للمناطق الحرة، لكن في الوقت ذاته فإن التغيرات المستجدة ستحد كثيراً من إقامة مناطق حرة جديدة، إذ إن كل الامتيازات التي تتمتع بها هذه المناطق ستتوفر في المناطق الاقتصادية الداخلية، خصوصاً وأن المدن الخليجية صغيرة ويمكن ربط مكوناتها اللوجستية بسهولة، مما يعني أن هناك تغيراً جذرياً قادماً ستتحول معه هذه البلدان إلى منطقة حرة كبيرة، وستنتفي مع مرور الزمن الفروقات بين المناطق الاقتصادية، سواء الحرة أو الداخلية.
هذا التحول المرتقب سيتطلب بدوره إعادة النظر في بعض القوانين والتشريعات الخليجية المشتركة، كالتي تستثني منتجات المناطق الحرة من بعض الامتيازات الواردة في نظام الاتحاد الجمركي الخليجي، وكذلك احتساب نسب الملكية الوطنية الخليجية ونسب القيمة المضافة والتي لن يكون لها أي معنى، على اعتبار أن الاقتصاد الخليجي برمته تحول إلى منطقة حرة، مع بعض الاستثناءات القليلة والتي ستزال مستقبلاً دون شك.
وفي نفس الوقت سيشكل ذلك تحدياً حقيقاً للسوق الخليجية المشتركة، والتي تمنح تسهيلات وامتيازات نادرة للتجارة البينية ولحرية انتقال الاستثمارات الوطنية بين دول المجلس، مما سيستلزم سرعة إعادة النظر في مجمل الاتفاقيات الاقتصادية الخليجية السابقة، وهو ما يتطلب بدوره جهوداً كبيرة واستعداداً من الأمانة العامة ومن كافة الدول لتعديل أنظمتها وتشريعاتها الداخلية لكي تستجيب لتلك التغيرات، حيث ستواجه بعض الدول تعقيدات في القيام بهذه التغييرات بالسرعة المطلوبة، بسبب تركيبة اتخاذ القرارات الاستثمارية وخضوعها لأكثر من جهة تشريعية.
لقد تمكنت دول المجلس على مدى أربعة عقود من الوصول لاتفاقيات اقتصادية وتجارية مهمة ساهمت في زيادة الترابط الاقتصادي والتبادل التجاري البيني، وهو ما كان مفيداً لكافة الاقتصاديات الخليجية، وساهم في زيادة معدلات نموها وتنوعها، إلا أن كل ذلك بحاجة الآن لإعادة صياغة في ظروف أكثر تعقيداً من سابقتها، وهو ما قد يستغرق وقتاً طويلاً.


مستشار وخبير اقتصادي