قبل أسابيع ودعنا أستاذ الفلسفة المغربي البارز الصديق محمد سبيلا.. كان الراحل مهووساً بسؤال الحداثة وإشكالاته الفكرية والاجتماعية، لا على غرار دعاة التنوير الكلاسيكي الذين كان كل همهم نشر قيم الحرية الفردية والعقلانية الذاتية والعلمنة القانونية.. فالرجل كان من قراء نتشه وهايدغر وشديد الاطلاع على فكر ما بعد الحداثة في نقده الجذري لمعايير العقل الأداتي ونظام الضبط والسلطة في الدولة الليبرالية الحديثة، لكنه كان في الآن نفسه مدركاً للفروق الكبرى بين سياق مسألة الحداثة في مجتمعاتنا التي لا تزال بحاجة إلى قوة دفع تاريخية لإخراجها من عطالتها وجمودها وسياق المسألة في العالم الغربي المعاصر.

كان «سبيلا» معجباً بالفيلسوف الإيراني الحداثي داريوش شايغان الذي دأب على نشر كتبه باللغة الفرنسية، ومتبنّياً أطروحته في «الوعي الهجين» الذي يعني به الجمع بين العقلانية الكونية الحداثية والذوق الجمالي المعيش، المتجذر في الثقافة المحلية والتراث الاجتماعي المعيش. والواقع أن موضوع الحداثة وإن أصبح حاضراً بقوة في الفكر العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، فإنه لم يتحول إلى محور اهتمام فلسفي إلا في السنوات الأخيرة.

بدأت مفاهيم الحداثة تنفذ مع جيل خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي على شكل تطلعات وشعارات للإصلاح السياسي والاجتماعي، وطُرحت في إطار مسألة التجديد الديني مع الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. أما التيار الليبرالي العربي، من سلامة موسى وأحمد لطفي السيد وطه حسين.. فقد نظَر للحداثة من زاوية قيمها الإنسانية ونظامها المجتمعي، دون التفكير النظري المعمق في مرتكزاتها الفلسفية والتصورية. ومع طغيان موجة اليسار في الساحة العربية منذ الستينيات، التبست قضية الحداثة مع إشكالية التقدم التاريخي التي تمحورت حول الجدل بين تصورين متصادمين للغائية التاريخية: هل هي الدولة الوطنية الليبرالية كما طرحها هيغل ومن قبله فلاسفة الحداثة السياسية، أم أنها المجتمع الاشتراكي الذي حسم عملية الصراع الطبقي وتجاوز تناقضات الحالة الرأسمالية؟ ظل دعاة الليبرالية قلة في العالم العربي، وغاب سؤال الحداثة في هذا الجدل المتعلق بشكل النظام السياسي والخيارات الأيديولوجية، إلى حد أن المفكر المغربي عبد الله العروي عندما نشر كتابه الشهير «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» (باللغة الفرنسية أولاً في منتصف الستينيات) طارحاً خيار استيعاب القيم الليبرالية في جوهر الأطروحة الاشتراكية السائدة أوانها، لم يلق أي تجاوب حقيقي داخل الفكر العربي. وقد نقده زميله في الجامعة المغربية المفكر المعروف محمد عابد الجابري بحدة في كتابه «الخطاب العربي المعاصر» الصادر في مطلع الثمانينيات.وهكذا وقع الانفصام الخطير بين سؤال الحداثة والمطلب الليبرالي، وتحوّل موضوع الحداثة إلى السجال الأدبي والنقدي في إطار الموجة اللسانية والأسلوبية العارمة التي عرفها العالم العربي في العقود الأربعة الأخيرة. انحصر سؤال الحداثة في موضوع الأجناس الأدبية والوزن العروضي وتقنيات شرح النص، وغابت عنه جوانبه الفلسفية المحورية. وعندما غزت الساحة العربية الكتابات التفكيكية النقدية للحداثة، في سياق الانتشار الكثيف لأعمال هايدغر ودريدا وفوكو ورورتي.. فرض على الفكر العربي إعادة طرح موضوع الحداثة بمنأى عن إشكاليات التحديث السياسي والاجتماعي التي شغلت الأجيال الأولى من رواد التنوير العربي. بيد أن الأزمة المنهجية التي عانى منها الفكر العربي الراهن تمثلت في تزامن أو تعايش مسلك الحداثة منظوراً وتطبيقاً من حيث هي مطلب موضوعي وحاجة حيوية في مقابل طغيان الأنساق الفكرية الجامدة ومسلك النقد التفكيكي الذي هو خط الانفتاح على الخطاب الفلسفي الحالي في ثورته التأويلية الكبرى التي أظهرت جوانب الوهن والضعف في مسارات الحداثة الغربية.

كان المرحوم الجابري يرى أن فكر ما بعد الحداثة نبتة هجينة في الأرض العربية، تناسب مجتمعات متخمة بالحداثة وتعاني سلبيات وتجاوزات التقدم العلمي والتقني، أما العرب فيحتاجون إلى عقلانية ديكارت وتنوير روسو ونقدية كانط.. لا إلى ما يضعف تطلعهم نحو الحداثة التي هي المشروع الكوني الوحيد المتاح للإقلاع والنهوض. وكان على يقين بأن من أسباب موجة التطرف والتشدد التي مرت بها المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة هذا التهوين النقدي من شأن مفاهيم العلم الوضعي والتنوير العقلاني. بيد أنه لا بد من التنبيه إلى أن نقد الحداثة هو في حقيقته ليس قطيعةً مع الحداثة أو نكوصاً عنها، بل إنه بدأ مع فلاسفة الحداثة أنفسهم الذين اعتبروا تشخيصَ الحاضر ونقدَه السمةَ الكبرى للمجتمعات الحديثة والأداة المثلى لتصحيح مساراتها وتجنيبها الانحراف والضياع. ذلك هو الدرس الذي على الحداثيين العرب استيعابه جيداً.

* أكاديمي موريتاني