زيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني، لتركيا ولقاؤه بالرئيس أردوغان، لم تكن حدثاً عادياً عابراً، ولقد أصاب معالي الدكتور أنور قرقاش حين وصف هذا الاجتماع بكونه (تاريخياً وإيجابياً) ولئن كانت التصريحات حول هذا الاجتماع قد ركزت على جوانب الاستثمار فإنني أفهم أن هذا التعاون الاقتصادي هو جسر للمصالحات التي تتوالى، ولعلها من تداعيات قمة (العلا) وتجسيد لدور الإمارات في إعادة الوفاق والتواصل في دول الإقليم والمنطقة عبر دبلوماسية ناضجة بعد أن عصفت بتلك الجسور المتينة ارتدادات هزات «الربيع العربي» وما أثارته من زوابع زعزعت أعمدة النظام العربي كله.

دولة الإمارات بقيت خارج التأثر بزلزال الثورات وارتداداتها، لخصوصية التفاعل الحكيم بين الشعب والسلطة منذ أن وضع حكيم الأمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مع أشقائه حكام الإمارات أسس بناء دولة مدنية يسود فيها العدل، وتتضح فيها طبيعة الحكم وأهدافه، وهذه الدولة التي أدهشت العالم بسرعة نمائها واجتيازها المراحل، فتحت أبوابها لأشقائها العرب منذ بداية الأزمات لتكون عوناً لهم في إيجاد الحلول والخلاص من الفواجع التي حلت بالأمة.

ولا يغيب عن السوريين جهد الإمارات لإطفاء الحرائق في سوريا قبل أن تستعر، فكم من الزيارات الدبلوماسية والمساعي الأخوية قدمت الإمارات باقتراح الحلول. ووقفت دولة الإمارات إلى جانب الشعب السوري موقفاً صلباً في ميادين الإغاثة مركزة في جهدها على الجانب الإنساني، وأسهمت بقوة في دفع مسارات التفاوض (ولاسيما عبر مؤتمر الرياض الأول حيث كنت شاهداً على تفاصيل الحدث).

وكان الدور الإماراتي أكثر حضوراً في قضايا مصر واليمن وليبيا. وكان الجميع يخشون من أن يكون البديل للنظام العربي المنفرط، صعود تيارات دينية تسيطر عليها أفكار شمولية عاجزة عن التصالح مع العصر، وعن تقديم إسلام قابل للحياة، لاسيما أن النماذج التي برزت جاءت بعيدة كل البعد عن الاعتدال الإسلامي التاريخي، مثل «داعش» و«النصرة» وسواهما من التنظيمات التي سارعت لإعلان ما يسمى (الدولة الإسلامية)، وهذا ما جعل السياسات المساندة للثورات تضطرب في مواقفها، وتعيد قراءة الموقف ورؤية المستقبل العربي. وأحسب أن هذه البيئة السياسية المضطربة قد دعت بعض الدول العربية إلى الحذر من تكرار الخطأ الاستراتيجي الذي وقع حين أهمل العرب العراق وابتعدوا عن ساحة النيران فيه، فوجدت القوى الطامعة (بدعم خارجي) فرصة الاقتحام على مبدأ الحلول، وتمكنت من أن تنفرد بالعراق.

ومن الواضح أن مؤتمر قمة بغداد للتعاون والشراكة، الذي انعقد في بغداد مؤخراً (28 أغسطس 2021) كان الفصل الأبرز في مراجعة العرب للموقف العام من العراق لبناء جسور متينة بينه وبين أمته، وأتوقع أن بعض الميل العربي إلى مهادنة الحكومة السورية ينطلق من الخوف من تكرار تجربة الإهمال وخشية ألا تقع سوريا كلية كما وقع العراق سابقاً خارج أمته، مع تأكيدي على الفارق بين طبيعة الحدثين.

ولابد من فهم البعد الاستراتيجي المهم في زيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد لدولة قطر لترسيخ المصالحات وفتح الجسور التي اهتزت خلال الفترة الماضية، وأعتقد أن قمة بغداد جاءت إعلاناً واضحاً عن عودة حميدة لحالة التفاهم والوفاق العربي. ولابد أن هذا الحضور الدبلوماسي هو مقدمة لحراك سياسي سيظهر بقوة، إن شاء الله، ليعيد بناء ما تهدم من العلاقات بين دول الإقليم، بعيداً عن أي موقف متصلب، وقد عبر عن هذه الروح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بعد لقائه بوزير الخارجية الإيراني الجديد متحدثاً عن (ترسيخ علاقات تقوم على مبادئ الحكمة ومصلحة الشعوب). أبارك لدولة الإمارات مسعاها الناضج لبناء جسور التواصل، فالعرب جميعاً يتطلعون إلى دور قيادي يخلص الأمة من خطر الوقوع في خلافات تضعف قواها وتشتت إمكاناتها، وعلى الجميع أن يتعاونوا لإنقاذ الأمة والخروج إلى ساحة الأمان والاطمئنان، وإيجاد حلول عادلة لكل القضايا والتحديات الراهنة.

*وزير الثقافة السوري الأسبق