هناك قصة من أحزن قصص هذا العام ما تستحقه من اهتمام إعلامي: إنها قصة تباطؤ التقدم السياسي والاقتصادي في أفريقيا جنوب الصحراء. إذ لم يعد هناك طريق واضح تمكن رؤيته، أو قصة بسيطة تمكن روايتها، حول كيف تستطيع أفقر قارة في العالم أن تشق طريقها إلى وضع الدول متوسطة الدخل. ورغم أن أفريقيا تزخر بمواهب بشرية مذهلة وإرث ثقافي هائل، فإن مراكزها السياسية الكبيرة باتت بصدد التفكك والانهيار حالياً. 
وهناك ثلاثة بلدان تكتسي أهمية جيوسياسية أكثر من غيرها. فإثيوبيا، التي يبلغ عدد سكانها 118 مليون نسمة، تُعد ثاني أكبر بلد في أفريقيا جنوب الصحراء من حيث عدد السكان، وأهم منطقة في شرق أفريقيا. ونيجيريا لديها أكبر عدد من حيث السكان (212 مليون نسمة) وأكبر ناتج محلي إجمالي في القارة. وجنوب أفريقيا، التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، تُعد البلد الأغنى في المنطقة، والقطب السياسي والاقتصادي المركزي في الجزء الجنوبي من القارة. 
وخلال العامين الماضيين، سقطت كل هذه الدول الثلاث في مشاكل خطيرة جداً. ولعل النموذج الأكثر وضوحاً هو إثيوبيا التي تعرف توتراً في أحد أقاليمها على الأقل. فمؤخراً، دعا رئيس الوزراء آبي أحمد كل المواطنين المؤهلين إلى الانخراط في القوات المسلحة. وهو ما يعد مؤشراً على أن تسوية النزاع ما تزال بعيدة المنال.
وكان آبي قد وعد بنصر سريع، لكن في يونيو الماضي فازت قوات إقليم تيغراي في بعض معاركها ضد الجيش الإثيوبي الوطني، واستولت على مناطق مهمة في الإقليم. واليوم، بات متمردو تيغراي يبسطون سيطرتهم حتى على مدينة لاليبيلا الشهيرة، والتي تُعد مركزاً سياحياً رئيسياً وتضم الكنائس المسيحية الصخرية المصنّفة تراثاً عالمياً من قبل منظمة اليونيسكو. ومن غير الواضح ما الذي سيحدث تالياً. 
وعلينا أن نأخذ في عين الاعتبار هنا أنه قبل النزاع الأخير، كانت إثيوبيا تتمتع بسنوات من معدلات نمو اقتصادي من رقمين، وهو شيء غير مسبوق في تاريخ أفريقيا الحديث. وكانت سياسة البلد الصناعية وإصلاحاته الاقتصادية مثار إعجاب دول نامية أخرى ونموذجاً لمحاكاته. وقد تكون هذه الآراء ما زالت صحيحة، لكن الخبر السار غطّت عليه نزاعاتٌ إثنية طويلة خرجت إلى العلن. والحال أنه قبل عامين فقط، تلقى آبي أحمد جائزة نوبل للسلام. 

وربما يكون الوضع في نيجيريا أقل خطورة، لكن الحياة السياسية في البلد تتراجع بوضوح. فهناك تمرد طويل في الشمال الشرقي للبلاد، وإغلاق للمتاجر في الجنوب الشرقي، وزيادة ملحوظة في عمليات الاختطاف من أجل فدى. وعلاوة على ذلك، يتحدث تقرير لـ«مجلس العلاقات الخارجية» عن «نزعة انفصالية متزايدة» في البلاد. والواقع أن الارتفاع في عمليات الاختطاف مثير للقلق لوحده، لكنه يمثّل كذلك مؤشراً أكبر على ضعف السلطة المركزية، إذ يشهد البلد حالياً ما يسميه البعض «وباء الاختطافات»، ويظل العدد الحقيقي لحالات الاختطاف غير معلن. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد خرجت نيجيريا للتو من ركودها الثاني في ظرف أربع سنوات، ونموها لم يتجاوز 3% منذ عام 2015. 
أما بالنسبة لجنوب أفريقيا، فقد اعتبر مقال طويل نشرته مجلة «نيويوركر» الأميركية مؤخراً أن «حلم مانديلا» تبدد، مشيراً إلى «عنف العصابات» الذي بات «يهدد النظام الدستوري للبلاد». ذلك أن 40 ألف متجر تعرضت للنهب أو التخريب أو الحرق وسط أعمال شغب واضطرابات كبيرة. إذ عرفت البلاد أسوأ أعمال عنف منذ نهاية نظام التمييز العنصري «الآبارتايد». كما تشهد جنوب أفريقيا حالياً موجات كبيرة من «كوفيد-19» والإغلاقات. وتبلغ البطالة في البلاد 33%، وهو معدل لا يأخذ في عين الحسبان الأشخاص الذين توقفوا عن البحث عن عمل.
هذه البلدان الثلاثة كان من المفترض أن تكون المحرِّكات الاقتصادية لقارة بأكملها، قارة ستصبح، حسب الأمم المتحدة، موطناً لنحو 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050، أو ربع سكان العالم. ولكن اقتصاداتها مريضة الآن. ولئن كانت جنوب أفريقيا تخطو بعض الخطوات نحو محاسبة الرئيس السابق جاكوب زوما، فإنه من الصعب القول إن هذه البلدان تشكّل نماذج سياسية في عمليات دمقرطة مستقرة. 
والحق أنه بناءً على الحجم والأهمية الثقافية والتاريخية، يفترض أن تكون جمهورية الكونغو الديمقراطية منافِسة أخرى على وضع دولة أفريقية مؤثّرة. لكنها ابتليت بالحرب لعقود طويلة، وهي في وضع لا يؤهلها لسد الفراغ الذي خلقته إخفاقات إثيوبيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا. 
لقد شكلت العقود القليلة الماضية وقتاً مواتياً نسبياً بالنسبة لأفريقيا. فقد كان هناك أقل عدد من الحروب الكبيرة في العالم، ونقص في الأوبئة الجديدة. وكانت الصين مهتمة ببناء البنية التحتية الأفريقية، وتحقق تقدم كبير في الصحة العامة عبر القارة. فهل يمكن أن تكون هذه النافذة قد أُغلقت، وأن وقت تحقيق المكاسب الكبيرة قد مر؟ هذا دون الأخذ في عين الاعتبار احتمال حدوث ضرر إضافي جراء «كوفيد-19» في قارة تسجل مستوى متدنياً جداً من التلقيح. 
الواقع أن هذه التراجعات السياسية في أفريقيا جنوب الصحراء قد تكون مجرد مصادفة في توقيتها، لكن الإمكانية المزعجة الأخرى هي أن تكنولوجيات زمننا وأيديولوجياته غير مواتية للدول التي لديها حكومات ضعيفة والكثير من المجموعات العرقية غير المتجانسة. في تلك الحالة، قد يكون كل هذا الحظ السيئ مؤشراً على أوقات أسوأ مقبلة. 

 

أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة جورج مايسون
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»