«افتحْ مدرسة تُغلِقْ سجناً» مقولة للشاعر الفرنسي فيكتور هيغو في القرن التاسع عشر، ذهبت مثلاً تتناقله الأجيال، باعتبارها أساساً لترجمة الأمل وروح التنوير، سواء على المستويات النخبوية أم العمومية، إذ تعتبر المدرسة الأداة الكبرى للمعرفة وحماية الناس من الجهل الذي رأى كثيرون أنه يؤدي إلى فقدان المناعة في مواجهة القضايا الأساسية.
لكن السؤال «الخلفي».. هل تحمينا الثقافة من البربرية الأيديولوجية؟
إذا عدنا مثلاً إلى اللحظة النازية في تاريخنا الحديث، نطرح السؤال ذاته: هل حمت الثقافةُ العالمَ من البربرية الأيديولوجية العرقية التي جسَّدها الفوهرر؟
لقد أكدت لنا هذه التجربة أن ألمانيا، البلد الذي كان يمتلك أفضل نظام تعليمي وجامعي، وأنتج أعظم الفلاسفة أمثال هايدغر (الذي انتمى بكل أسف إلى النازية)، وماركس، وهيغل، وأروع الشعراء مثل غوته وهولدرن وريلكه.. سقط كله في البربرية العرقية، وانساق إلى المناخات التي أشاعها هتلر من غرائز وقتل ومجازر. لقد سقط البلد، وكأنما ثقافة ناسه لعبت دوراً «مضاداً» لطبيعتها، وساعدت على الاندماج الأيديولوجي الإقصائي والانتشاء بنكهة التفوق العرقي، واختياره الوحشية والحروب كوسائل بديلة عن العالم!
إذا كانت المعرفة العميمة والعريقة لم تلجم مثل هذه الظواهر، فقد استغل بعضهم هذه النقطة وسواها عبر التاريخ ليدلي بمقولة متناقضة مفادها «أن الجهل قد يكون مفيداً وجيداً»، وثمة خطوة واحدة لاجتياز عتبته. هذه العتبة لم يجتزها الأميون الذين يحيون «الجهل المقدس»، بل أيضاً كثير من البورجوازيين والصناعيين والمثقفين، الذين كانوا، ولا يزالون، يعتبرون أن النساء والعمال لا يحتاجون إلى كثير من التعليم، لأن من شأنه تحويل رسالتهم الأساسية القائمة على الطاعة وعلى تقاليد المؤسسات والعائلات والمصانع.
والغريب أن ثورة 1968 الطلابية في فرنسا لم تتردد في إدانة «اللغة»، ونقل الثقافة في المدرسة والجامعة، والأدوات الأيديولوجية للسطة فقط.. بل شككت أيضاً في دور الكتابة في تطوير الشعوب! والعنوان: إن المعرفة المكتسبة تساهم في إفساد الفكرة المتوحشة وفي محو براءة الشعوب الأولى، وتفرض ثقافة السلطة واستبدادها.
وهذا بالذات ما توصل إليه أبو الأنتروبولوجيا البنيوية «ليفي شتراوس» معتبراً أن إرادة تظهير الكتابة، باعتبارها عنصراً من عناصر تطور الأفراد والجماعات، تؤدي إلى إدانة المدرسة الجمهورية، مضيفاً أن هذه التجربة تُخضع الناس للعبودية، مؤكداً أن المعرفة هي من صنع الأنظمة، وهيكلة الدولة، ومن اختراع النخب.
لكن، كأنما نستمع هنا إلى هذيانات من «نخب» يكتبون ويقرأون ويتثقفون.. فاكتسبوا صفة النخب، وحازوا مواقعهم المعرفية، وتجاهلوا حقائق كبرى صنعت مصير البشرية.
فالمعرفة أصلاً من صنع الإنسان، ونزعته الأولية لاكتشاف نفسه والعالم، وما فيهما.. فهو الذي قصد التماهي بعقله وحواسه، سواء عبر عفويته أو حاجاته أو إدراكاته بمستوياتها المركبة.
وإذا كانت أوروبا قد شهدت حربين أظهرت فيهما وحشيةً لم يرتكبها المتوحشون والبدائيون، فهذا غير مرتبط بتراتبيات المعرفة. بل بإرادات كبرى من خلال دول ومصالح ومشاريع وسعي إلى السيطرة.
وهنا يمكننا القول بأن «المعرفة» التي تصنع الفوضى لا تُواجَه بأدوات من طبيعتها، بل بمعرفة تحاول إعادة بناء وإصلاح ما تم تدميره. وهذا نقيض نشر ثقافة اللاثقافة، أي مقارعة الجهل بالجهل، بل مواجهة هذه الظواهر بالعقلانية والوعي. وهنا نعود إلى منظور ليفي شتراوس الذي دعا له بعد دراساته الميدانية حول الشعوب البدائية، مفضلاً ترك هذه الشعوب على طبيعتها «البريئة» و«الطاهرة»، وعدم إفسادها بأي قيم حضارية. ولو كان حياً اليوم لتأكد من صعود الأمّية والعنصرية والتطرف. 
وقبل أكثر من 1400 سنة، قالها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «اطلبوا العلم ولو في الصين».