ما أكثرهم القادة الذين أُثير جدل واسع حولهم، واختُلف على تقييم سياساتهم وأدائهم إيجاباً أو سلباً أو في منزلة بين المنزلتين. لكن القائد الفرنسي نابليون بونابرت يبقى الأكثر إثارةً لأطول جدل في التاريخ الحديث. لم يتوقف الجدل حول نابليون، الذي تحتفي فرنسا حتى نهاية العام الجاري بمئوية رحيله الثانية. جدل مستمر على مدى قرنين، وأكثر منذ هزيمته في معركة «واترلو» وإنهاء حياته السياسية ونفيه إلى جزيرة «سانت هيلانة» عام 1815. ولا يمنع الخلاف العميق بين الفرنسيين على نابليون احتفاءَهم به. فالخلاف موجود في داخلهم أيضاً، إذ قد يراه الواحد منهم بطلاً مغواراً تارةً، وطاغيةً غازياً تارة أخرى.
ارتبط اسم نابليون بالانتصار، مثلما اقترن بالهزيمة، وحفلت حياتُه بأمجاد كبيرة، لكنها انتهت في هوان عظيم. فقد قلب أوروبا رأساً على عقب خلال حروبه التي عُرفت باسمه (الحروب النابليونية) لأكثر من عشر سنوات. انتصر على تحالفات عدة أُسست لمواجهة طموحه وتوسعه، وكان أهمها تحالف بريطانيا وروسيا وبروسيا والسويد الذي تمكن من إلحاق الهزيمة به في النهاية.
عزَّزت انتصاراته المبكرة طموحاً مهولاً صار أسيراً له، فلم يعرف متى يوقف حروبه وأين، وكيف يضع حداً لنشوة سياسية عسكرية سيطرت عليه، حتى لقي هزيمةً مُذلةً في النهاية، ومات غريباً ودُفن في غير الوطن الذي أراد أن يرفع علَمَه عالياً في عنان السماء، لكنه لم يُدرك كيف يفعل ذلك.
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يستمر الجدل حول نابليون لأكثر من قرنين من دون أن تلوح له نهاية، كما يبدو من متابعة ما يُكتب ويُقال عنه هذه الأيام، ليس في فرنسا فقط، بل في بلدان عدة أخرى. ولا يقتصر هذا الجدل على سياساته وحروبه، بل يشمل شخصه وصفاته وعلاقاته الأسرية والاجتماعية. ويشتد الخلاف الآن، في سياق هذا الجدل، على قصص زواجه، وملابسات وفاته، ونوع المرض الذي أصابه، بل على أمور تبدو أصغر مثل طول قامته. وهذا أمر نادر في الجدل حول شخصية تاريخية.
ولأن في رحلة نابليون الغنية في الحياة فصولاً لا حصر لها اختلطت فيها أكاليل النصر والغار بعار الغزو والطُغيان، وصل الاهتمام الفائق بمسيرته إلى حد نسيان القائد الإنجليزي الذي انتصر عليه وأنهى سلسلة حروبه، فقد خلت كثير من الكتب والدراسات عن معركة واترلو من اسم آرثر ويلزلي القائد المنتصر في تلك المعركة، والذي مُنح لقب دوق ولنجتون تكريماً له، ثم أُهمل بعد ذلك لأن الجدل حول نابليون طغى عليه، كما على أسماء أخرى كثيرة أدى أصحابُها أدواراً مُهمةً في مرحلة تحول كبير شهدته أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر، وقاد إلى إحدى أهم معاهدات التاريخ الحديث، وهي معاهدة فيينا عام 1815 التي أعادت رسم حدود القارة العجوز، وأسست نظام التوازن الدولي متعدد الأقطاب الذي استمر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وربما يكون الدرس الأول الذي يُستفاد في هذه المناسبة هو أن استمرار النجاح بوجه عام، وليس في الحروب فقط، يرتبط بالقدرة على مراجعة الاتجاه الذي يمضي فيه المرء من وقت إلى آخر، والتقاط إشارات تعينه في تحديد وجهته، وتُجنبه ما قد يدفعه إلى الاعتقاد بأنه أكبر أو أقوى من الجميع، مهما اشتد الإعجاب به، وحتى إذا كان في مقدمة مشجعيه مفكرون من طراز رفيع مثل الفيلسوف الألماني هيجل الذي قال عن نابليون إنه «روح أوروبا»، أو فنانون كبار رسموا له لوحات بديعة صار بعضها من أهم الأعمال الفنية لأنهم آمنوا بدوره التاريخي.
ولهذا سيبقى تاريخ نابليون محل اهتمام مستمر من الخاصة والعامة على حد سواء.