دخلت على مسارات وفصول تأليف الحريري الحكومة دولٌ عربية وأجنبية، أوروبية وأميركية وروسيا، لكن لم تجد هذه الجهود ما يحل «معضلة» تأليفها، من فرنسا إلى الولايات المتحدة وروسيا ومصر وغيرها، وتعددت المقاربات والنزاعات، والاقتراحات، كانت كلها تصطدم بواقع مركب معقد مفتعل متناقض مجهول السمات.

ونظن أن هذه الدول مشكورةً كانت تعرف يقيناً أن الأزمة في عمقها لا تتصل فقط بالتأليف، ولا بالصراع بين الرئيس عون والرئيس سعد الحريري، ولا بالثلث المعطّل، ولا بمن يسمي الوزيرين المسيحيين ومن لا يسميهما.. وإنما في مكان آخر، ولهذا سعت مجمل هذه الدول استنساباً إلى تخفيف عبء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والسياسية الضاغطة على اللبنانيين.

اللعبة في مكان آخر يعرفه الجميع. ومن ملامح هذه العوامل الدفينة، أولا: المفاوضات المتعثرة بين الولايات المتحدة وإيران حول النووي، فلبنان بات ورقة (لا دولة ولا رئاسة ولا حكومة ولا برلماناً..) في يد «حزب الله» (كما كان ورقة في يد الوصاية السورية)، وتماماً كما هو حال بغداد وصنعاء. ورقة ضغط في التفاوض، كأن التركيز على الأوضاع المتدهورة في البلد لم يكن سبباً، لضغط تلك الدول على «حزب الله» وداعميه الإقليميين.. بل إن العقوبات التي هددت بها فرنسا ودعمتها أوروبا لم تتوجه إلى الحزب، بل إلى بعض الفرقاء اللبنانيين (معرقلي التأليف)، والذرائع عديدة.

إن أوروبا اليوم ليست أوروبا القرن التاسع عشر عندما فرضت نظام المتصرفية على تركيا باستقلال الجبل، ولأن للدول الأوروبية والولايات المتحدة، من جهتها، مصالح (أو علاقة) بإيران، ففرنسا مثلا لها مصالح اقتصادية ضخمة لا تريد أن تصطدم بأي معوق، لذلك فهي تسعى إلى إنجاح مفاوضات «النووي»، وتالياً لا تريد فتح معارك جانبية بسبب لبنان.

والحزب يعرف هذه الأمور، وقد صرّح رئيس كتلته النيابية، محمد رعد، مؤخراً بأن هناك علاقات دافئة بين الحزب وفرنسا! كل هذا يوحي بأن مجمل المحاولات التي بُذلت لتفكيك «العقد الظاهرة» أفشلتها «العقد المضمرة» أو «غير المعلنة».

ونظن أن مفاوضات النووي بين إيران وأميركا قد تكون الفضاء الجامع لمجمل عوامل أخرى، منها أن الحزب يشكل دويلة موازية للدولة اللبنانية، لها قضاؤها واقتصادها ومحاكمها وجيشها واستقلاليتها، ويمتلك قرار الحرب والسلم، ويخترق معظم مؤسسات الدولة، ويتمتع بالأكثرية النيابية.. وهي مكاسب وازنة في تأليف الحكومة، كمفصل تنفيذي أساسي في تعزيز هيمنته وفرض مشروعه. وهذا يعني أن أي حكومة عتيدة، سواء برئاسة ميقاتي أم فيصل كرامي أم تمام سلام.. لا يمكن أن تؤلَّف إلا بشروط الحزب (وخلفه حليفه الرئيس عون الذي له أسبابه في هذا البازار السيادي). من هنا تجتمع كل هذه المدوّنات لتصيب اتفاق الطائف الذي يعتبره الحزب عائقاً أمام تكريس شرعيته الميليشياوية، ولهذا يجهد (في الخفاء) في تعديله بمؤتمر تأسيسي رديف أو بتكريس نظام رئاسي أمني ينتزع ما ينتزع من صلاحيات رئاسة الحكومة.

 هذه المعطيات ما زالت موجودةً بقوة في فصول التأليف الجديدة.. فهل ستسهل أمور التشكيل أم تعطلها وتستمر حكومة تصريف الأعمال حتى الانتخابات التي يشكك كثيرون في احتمال إجرائها في موعدها! المتاهة عميقة، والتفكك يتغور، والمتماسك الوحيد في هذه الدوامة هو «حزب الله»!

أما باقي الأطراف المعارضة المفترضة فكأن طرق اللقاء فيها تكاد تكون مقطوعةً، بل حتى الاصطدام المباشر المدوي بمؤتمر الطائف، أو بنتائج المفاوضات النووية، أو تحديداً حتى تلاشي ما تبقى من البلاد ومؤسساتها ووجودها.. بل ومعنى لبنان ورمزيته التاريخية. فهل ستنفع عندئذ انفجارات اجتماعية، وحراكات احتجاجية، أو حتى حروب أهلية؟

*كاتب لبناني