ألقى المبعوث الأممي إلى ليبيا يوم 15 يوليو الجاري بياناً أمام مجلس الأمن الدولي اتسم بالصراحة والوضوح والشمول، بحيث قدّم صورة شديدة الشفافية عن المأزق السياسي الراهن في ليبيا وأبعاده وتداعياته المحتملة على مسار التسوية السياسية الحالي. وقد أكد البيان، وبتفاصيل دقيقة، التطورات الخطيرة الأخيرة في الملف الليبي والتي كنت قد أشرت إليها في مقالتي بتاريخ 6 يوليو بعنوان «تطورات خطيرة في الملف الليبي». ولم يكتف البيان بالتسجيل الدقيق للتطورات التي انتهت بالإخفاق في التوصل إلى قاعدة دستورية تُجرى على أساسها الانتخابات، ولكنه أضاف ما يؤكد صعوبة التوصل إلى حل لهذا الخلاف. فقد بدأ بيانه بإحاطة المجلس علماً بمشاوراته مع مجموعة كبيرة من الأطراف الفاعلة لإقناعهم بالمحافظة على المسار المؤدي إلى الانتخابات، وقال ما نصه: «وفي حين جدد جميع مَن تحاورت معهم تقريباً تأكيد التزامهم بإجراء الانتخابات في موعدها، أخشى أن العديد منهم ليسوا مستعدين للمضي قدماً في ترجمة أقوالهم إلى أفعال»، وهذا هو بيت القصيد. وقد ورد في سياق بيان المبعوث الأممي تفسير لهذه الحالة بقوله: «إن قوى الوضع القديمة والجديدة تستخدم أساليب متنوعة وحججاً مشروعة في الغالب تفضي إلى عرقلة الانتخابات»، مُذكراً بتسمية سلفه (غسان سلامة) لهم بـ«المعرقلين»، وهو ما يؤكد أن ثمة مصالح راسخة للبعض في تكريس الوضع الراهن، وهم إما مستفيدون منه يخشون خسارة مكاسبهم بانتهائه، أو خائفون من أن تكشف الانتخابات وزنهم الحقيقي فيفقدون ما لهم من نفوذ رتبته أوضاع الصراع الحالية. وقد صارت هذه للأسف آلية من آليات إطالة أمد الصراعات.
لا يكتسب بيان المبعوث الأممي أهميته من إشارته لدور «المعرقلين» فحسب، ولكنه في تقديري أول وثيقة رسمية تشرح بشيء من التفصيل ملابسات فشل اجتماع ملتقى الحوار في جنيف (28 يونيو-2 يوليو الجاري) في التوافق على القاعدة الدستورية التي ستُجرى على أساسها الانتخابات، حيث فشلت اللجنة القانونية المنبثقة عن الملتقى في تحقيق هذا التوافق، فأُحيل الأمر إلى الاجتماع الافتراضي للملتقى أواخر مايو والذي فشل بدوره، فنظرها الملتقى في اجتماع يونيو-يوليو ليستمر الفشل. ويتمحور الخلاف حول قضايا جوهرية من الواضح أن الأطراف المُمَثلة في الحوار تتخذ مواقفها منها بحسب مصالحها، وأهم هذه القضايا: هل يكون انتخاب رئيس الجمهورية مباشراً أم من خلال البرلمان؟ وهل تُجرى الانتخابات الرئاسية المباشرة أولاً أم الاستفتاء على الدستور الدائم؟ علاوة على خلاف آخر يدور حول شروط الترشح، وبالأخص لمنصب الرئيس، ومدى أهلية العسكريين وحاملي الجنسية المزدوجة لذلك، وبأي شروط؟
وقد أوضح المبعوث الأممي في بيانه أن الخلاف كشف عن انقسام أعضاء الملتقى إلى تكتلات وجماعات مصالح مختلفة بانتماءات مختلفة، وأن هذه التكتلات والجماعات أصرت على مواقفها، ومن ثم لم يتمكن الملتقى «ولم يرغب» في التوصل إلى اتفاق نهائي حول القاعدة الدستورية للانتخابات. ويُعتبر استخدام المبعوث تعبير أن الملتقى «لم يرغب» في التوصل إلى اتفاق أمراً بالغ الدلالة على فقدان الإرادة السياسية المطلوبة لعبور الخلاف. والأخطر ما رصده البيان عن تداعيات هذا الخلاف على المسار السياسي الراهن، فلم تقتصر هذه التداعيات على انقسام الملتقى إلى تكتلات وجماعات متناحرة وإنما امتد إلى أزمات متعددة بين مؤسسات الدولة الليبية الهشة نلمس أعراضها، ومنها مثلاً أزمة بين مجلس النواب وحكومة الوحدة الوطنية، وأزمة بين الأخيرة والجيش الوطني الليبي، وأزمة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وأخيراً وليس آخراً أزمة بين المتمسكين بإجراء الانتخابات في موعدها والراغبين في تأجيلها. وسيكون لهذه الأزمات بدورها تداعياتها على المسار السياسي برمته، فما العمل؟