اعتذر سعد الحريري الرئيس المكلف من مجلس النواب اللبناني عن تشكيل الحكومة بعد قرابة تسعة أشهر من المحاولات للاتفاق مع رئيس الجمهورية دونما قدرةٍ من جانب الرجلين على التوافق. وينص الدستور اللبناني على أن يكلّف رئيس الجمهورية شخصاً لتشكيل الحكومة بعد استشاراتٍ ملزمةٍ يحصل بنتيجتها ذلك الشخص (من المسلمين السنة) على تأييد أكثريةٍ بالمجلس.

والحريري في الأصل حليفٌ لرئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل منذ أيده في الوصول إلى رئاسة الجمهورية عام 2016. وقد شكّل حكومتين في عهد عون، كانت الغلبة فيهما من حيث عدد الوزارات لصالح عون وحليفه «حزب الله». ثم بدأت العلاقات تتردى بينهما بعد انتخابات عام 2018، والتي ربح فيها عون وحلفاؤه كثيراً وخسر فيها سعد الحريري كثيراً.

لكنّ السبب المباشر للخلاف ما كان قانون الانتخابات رغم فظاعته، بل بدء الانهيار الاقتصادي بسبب الاختلال المتفاقم في ميزان المدفوعات، وانعدام النمو، وأهوال الفساد، والتهريب وغسيل الأموال، والعزلة التي بدأ يعاني منها لبنان بسبب استيلاء الحزب المسلَّح على المرافق، والتدخل في سوريا، وتهديد الدول العربية. وعلى أي حال، بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت وجود آلاف الأطنان من المواد شديدة الانفجار في مخازنه لسنواتٍ طويلة، استقالت حكومة حسان دياب التي خلفتْ حكومة الحريري الثانية، فأعادت الأكثرية في مجلس النواب تكليف سعد الحريري، وسط معارضةٍ متزايدةٍ من جانب الرئيس وصهره للحريري، وبذلك صارح الرئيسُ النوابَ في رسالةٍ علنيةٍ، لكنهم لم يتجاوبوا، وكلفوا الحريري، كما سبق القول! منذ تسعة أشهرٍ إذن، اجتمع الحريري مع عون أكثر من عشرين مرة، وعرض عليه تشكيلات مختلفة، لكنّ عوناً رفضها، وقرر أنه هو الذي يعيّن كل الوزراء المسيحيين أو ما سمّاه بالثلث الضامن.

واختراع «الثلث» هذا في الأصل من صنع الحزب المسلَّح، ثم استخدمه جبران باسيل للسيطرة على الحكومات، لأنه بحسب الدستور إذا استقال ثلث أعضاء الحكومة اعتُبرت مستقيلة! لقد أراد باسيل السيطرة كما كان عليه الأمر سابقاً. ثم إنه يطمح لرئاسة الجمهورية بعد عمّه، وإلى ذلك فعندما تنتهي مدة رئيس الجمهورية بعد عام، تسيطر الحكومة القائمة إذا لم يكن هناك رئيس، إلا إذا كان باسيل متحكماً بالحكومة ويستطيع إسقاطها من أجل الإرغام على المجيء بنفسه كما فعل عون نفسه من قبل!

وخلال الأشهر التسعة من المماحكات المضنية بين الرئيسين، بلغ الوضع اللبناني أقصى درجات انهياره. لقد بلغ سعر الدولار الواحد 500.22 ليرة بعد أن كان 1500 ليرة قبل عامٍ واحد! وسادت الندرة في السِلَع والأدوية والمحروقات وتصدع التعليم وشارفت المستشفيات على الانهيار، وشاعت الهجرة وتفاقمت في أوساط الإنتلجنسيا. وفي الأسابيع الأخيرة، تصاعدت نزعات الفوضى ونزوعات الانتحاريات. فأقبل الشبان الجائعون أو المدفوعون على التصادم مع الجيش، وقالت قيادة الجيش إنها على مشارف المجاعة، واستغاث البطريرك الماروني بدعوات الحياد والمؤتمر الدولي. أما جماعة عون وباسيل، فتوقفوا عن الاستتار بحقوق المسيحيين، وقالوا: نحن أو لا أحد!

في حين تحمّس أنصار سعد الحريري له بسبب صموده هذه المرة، وقالوا: بحسب الدستور يستطيع الحريري أن يبقى مكلفاً وليبلط عون وباسيل البحر! أما سعد الحريري نفسه ففكر بطريقة مختلفة، أي بالاعتذار انتقاماً، باعتبار أنه لن يجرؤ سني معتبر على التصدي لرئاسة الحكومة بعده، ولأنه سيُعتبر تابعاً لعون! فتعود الكرة إلى ملعبه. بلغت الأزمة ذروتها بالفعل باعتذار الحريري. وإذا نظرنا إلى الوضع المتردي من كل النواحي، نجد أننا دونما قدرةٍ على القيام بأي شيء، حتى بتشكيل حكومة (!) لقد انصرف الناس عن الداخل يائسين وراحوا يسألون الفرنسيين والأميركيين والسعوديين والمصريين. بيد أنّ الجميع يشترط حكومة للدخول إلى معالجة الأوضاع، وما من مجيب. لقد صار وزير الخارجية الفرنسي لودريان متخصصاً بشتم السياسيين اللبنانيين، وقال يوم الخميس الماضي على أثر اعتذار الحريري: المسؤولون اللبنانيون يقومون بعملية تدمير ذاتي، إنها أزمة أخلاقية!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية