هناك طريقة قيادة ومهارات تحكم في عمليات البحث والتقصي على منصة «نتفليكس»، وهي قيادة ومهارات تم تطويرها عندي وعند كثيرين في العصر «الكوروني الأول»، حقبة الحظر الشامل تحديداً.

استعدت تلك المهارات قبل فترة قصيرة حيث نعيش العصر الكوروني الانتقالي (حقبة جرعات اللقاح) وقد أخذت جرعتي الأولى وشعرت بأعراض التعب واستلزم مني ذلك الراحة والاسترخاء في البيت، مع الاستلقاء على الأريكة المقابلة للتلفاز واستعادة السيطرة على أجهزة التحكم العديدة.

مهارات القيادة والتحكم في عالم «نتفليكس» الواسع والشاسع جدا، قادتني إلى تجنب الأفلام الهوليودية بنجومها المشهورين، وكذلك تجنبت عبثيات الكوميديا العربية التهريجية التي يمتلئ فيها فضاء «نتفليكس»، وهي أفلام لا أنكر أني أتابعها فقط لأرتكب جريمة قتل الوقت في ليالي الأرق، وأحب نجومها الذين لا يقدمون أي رسالة لكن ينجحون في إضحاكي (وهذا نجاح في مقاييس صناعة الترفيه).

توجهت نحو تصنيف الأفلام المستقلة، ومن بينها لفت انتباهي فيلم سوري قصير جدا مدته 13 دقيقة لعبدالمنعم عمايري وكاريس بشار، كان إبداعاً في الأداء التمثيلي ضمن نص من الكوميديا السوداء. مهارات القيادة إياها، جعلتني أبحث عن الأفلام القريبة والتي تقودك فيها خوارزمية ذكية للمنصة عليك أن تتقن فيها خياراتك، وهذا كله أوصلني إلى فيلم «من ألف إلى باء» وهو من إنتاج إماراتي عام 2015 ومخرجه إماراتي، وقام بدور البطولة فيه ممثلون بين نجوم معروفين وآخرين لم أسمع عنهم، لكنهم جميعا كانوا على مستوى رفيع من الأداء في سياق قصة تدور أحداثها على الطريق البري من أبوظبي إلى بيروت.

جوهر القصة بسيط، ثلاث أصدقاء (سوري ومصري وسعودي) مقيمين في أبوظبي، يقررون زيارة قبر صديقهم اللبناني الذي قضى عام 2006 في لبنان. الطريق طويلة، والأحداث على قساوتها حملت في السيناريو سخرية لذيذة وحلوة، وفي الالتقاطات الإخراجية ومضات ذكية لتفاصيل عديدة منذ وصول الأصدقاء الثلاثة على تنوع خلفياتهم وأمزجتهم إلى الحدود السعودية مرورا بجنوب الأردن والمغامرات في مدينة البتراء حتى دخولهم «الفانتازي وغير الواقعي طبعا» إلى الحدود السورية واصطدامهم القاسي بعناصر الجيش النظامي، ثم مواجهتهم القاسية أيضا مع فصيل مسلحين في درعا.

الوصول إلى بيروت كان الخاتمة، والوقوف على قبر الصديق كان لحظة الذروة الدرامية والقفلة التي لملم فيها المخرج بذكاء «واستعجال أحياناً» أطراف القصة التي بعثر أحداثها من البداية. المخرج الإماراتي علي مصطفى هو نفسه كاتب قصة الفيلم الذي عالجه بالسيناريو ثلاث كتاب، وبعد مشاهدتي للفيلم انتباني فضول للبحث أكثر عن قصة صناعته لأكتشف مثلاً أن نسخته المكتوبة الأولى كانت بالإنجليزية، لكن المخرج كان ذكياً في ترك مساحات حرية للطاقم التمثيلي نفسه بالتدخل في تعريب السيناريو، مثل الممثل المصري شادي ألفونس الذي أدخل شخصيته المصرية بكل الإفيهات إلى شخصية الفيلم.

مؤسف أن الفيلم «مثله مثل أغلب الأفلام العربية المستقلة» لم يلق مشاهدة جماهيرية، فالجمهور «مش عاوز كدة»، وهو ما يضع العربة أمام الحصان في موضوع من يوجه الآخر. «نتفليكس» كانت ذكية في إدراج مثل تلك الأفلام على منصتها، فهل من مشاهد ذكي؟

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا