كتبت في هذه الصفحة في مايو الماضي معلِّقاً على بداية الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد عشرين عاماً من حرب كان هدفها اقتلاع حكم «طالبان»، لرفضها تسليم زعيم تنظيم «القاعدة» المتهم بتدبير أحداث سبتمبر2001، وكلفت الولايات المتحدة 900 مليار دولار وقرابة 2300 قتيل وأكثر من 20 ألف جريح.. ثم جاء الانسحاب بناءً على اتفاق وقَّعه معها الرئيس الأميركي السابق ترامب، وهو انسحاب أشرت إلى أنه يؤكد مجدداً فكرة حدود القوة في العلاقات الدولية في تكرارٍ لتجربة الولايات المتحدة في فيتنام في القرن الماضي.
وفي هذه المقالة أُعاود الحديث عن هذا الانسحاب بعد أن قارب الاكتمال من منظور فكرة أخرى تتعلق بالنظم السياسية التي تنشأ بتخطيط ورعاية خارجيين، فمنذ بدأ الانسحاب الأميركي تصاعدَ القتال مجدداً بين حركة «طالبان» وقوات الجيش الأفغاني، وبدأت قوات الحركة تحقق تقدمات متتالية تعددت مؤشراتها، وصرّحت مصادر «طالبان» بأن الحركة باتت تسيطر على 85%‏ من الأراضي الأفغانية، ونُقل عن وفدها الذي سافر لموسكو مؤخراً أن «طالبان» تسيطر على 250 مقاطعة من إجمالي 400 مقاطعة في أفغانستان، ومعابر حدودية مهمة بينها وكل من إيران وطاجيكستان. ورغم عدم وجود مصادر مستقلة تؤكد صحة هذه التصريحات، فإن فكرة التقدم السريع لـ«طالبان» تكاد تكون موضع إجماع بين الخبراء العسكريين والمحللين السياسيين. وقد صرّح مسؤول رفيع سابق في «الناتو» بأن «طالبان» ستسيطر في نهاية المطاف على أفغانستان بأكملها، وأكد التحليل نفسه أستاذ علوم سياسية فرنسي متخصص في الشأن الأفغاني ذهب إلى أن انهيار النظام الأفغاني القائم مسألة وقت، بل أكد أن الأميركيين كانوا يدركون أن انسحابهم سيفضي إلى هذا الانهيار، لكن القرار كان سياسياً. والواقع أن هذا الرأي يتسق مع التقارير التي أفادت بأن تقريراً مخابراتياً أميركياً في يونيو الماضي أعرب عن الخشية من سيطرة «طالبان» على كل أفغانستان في غضون 6 أشهر. ومع أن بايدن قد صرح بأنه ليس متأكداً من أن هذا سيحدث، لكنه في الوقت نفسه لم ينف إمكانية حدوثه، بل لقد اعترف بأنه ليس من المرجح أن تتمكن الحكومة الأفغانية من السيطرة على البلاد بأكملها.
والواقع أن هذه التطورات تبدو شديدة المنطقية، فإذا كانت الحرب الضارية التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان في2001، ولمدة 20عاماً، بدعم من «الناتو»، لم تقض على «طالبان»، فما الذي نتوقعه بعد اتفاق الولايات المتحدة معها على سحب القوات الأميركية وقوات «الناتو» مقابل تعهدها بألا تسمح لـ«القاعدة» أو أي تنظيم إرهابي آخر بالعمل من أراضيها؟ والواقع أن صياغة الاتفاق مع «طالبان» على هذا النحو اعتراف ضمني بأنها صاحبة اليد العليا في أفغانستان، أو على الأقل صاحبة نفوذ حقيقي فيها، وإلا ما طُلِب منها هذا الطلب. ولو كانت الإدارة الأميركية متأكدة من قوة النظام الذي ستُخَلفه وراءها بعد انسحابها، لما مدت يدها إلى «طالبان». وإذا كان الحال كذلك في ظل وجود قوات أجنبية تنتمي للقوة العسكرية الأولى في العالم ولأقوى التحالفات العسكرية فيه، فكيف يكون بعد مغادرة هذه القوات؟ 

وتثير هذه التطورات فكرة هشاشة النظم التي تنشأ بتخطيط ورعاية خارجيين على العكس من تلك التي تنبثق عن تفاعلات سياسية ذاتية بين قوى المجتمع الحية، فالأولى تعكس رؤى الخارج وتحيزاته الفكرية والمصلحية، والثانية تمثل انعكاساً أميناً لحقائق اجتماعية سياسية قائم. ولعل هذا الأصل «الخارجي» لنظام الحكم الأفغاني الحالي هو ما يعطي «طالبان» أفضلية نسبية في الساحة الأفغانية، فليس في أفكار هذه الحركة وممارساتها ما يغري الكثيرين، لكن النموذج السوي البديل مازال غائباً.