وسط الأزمة السياسية والأزمة المعيشية المتفاقمة في سائر أنحاء لنبان، عادت مدينة طرابلس بشمال البلاد إلى الواجهة، وعادت وسائل الإعلام للاهتمام بها. ومظاهرها في الأيام الأخيرة خروج مئات من الشبان من أحياء البؤس بالمدينة، مثل باب التبّانة والتل والقبة والزاهرية.. إلى شوارع المدينة صارخين محرقين دواليب السيارات، ومانعين الناس من المرور، ومحطِّمين كلَّ ما يقف في طريقهم. وكانوا ينسحبون أو يتراجعون في العادة عندما تظهر كتائب الجيش اللبناني، وقوى الأمن الداخلي، لكنهم في الهَوجة الأخيرة لا يترددون في مهاجمة الجيش، ومصادمة جنوده، والتعارُك معهم، رغم إطلاق الأعيرة النارية بكثافة من الجيش، ومن بعض مَن يحملون السلاح (الأبيض أحياناً) من المتظاهرين.

وما مات أحدٌ حتى الآن من الطرفين، لكنّ الجراح والإصابات كثيرة، مما دعا رئيس بلدية طرابلس إلى التصريح بأنّ الموقف بالمدينة انفلت وبأن وزير الداخلية لا يأتي إلى المدينة ولا يقبل الاجتماع بأحدٍ من أهلها! 
ما هي أسباب ذلك؟ وما التطورات الأخيرة التي استدعت الهَوجة الجديدة؟ المتظاهرون بطرابلس يطالبون بالمحروقات والكهرباء والخبز والأكل والدواء، وباختصار: كل وسائل العيش والحياة! وفقْد هذه الأمور يعمُ لبنان كلَّه، وبعضها ما يزال الذين يمتلكون مالاً يستطيعون تأمينها.

أما آلاف الأُسَر في طرابلس بالذات فلا تمتلك المال ولو بالحدّ الأدنى لشراء الخبز والطعام، فضلاً عن ضرورات العيش الأغلى ثمناً مثل الدواء ودخول المستشفيات، والأندر: فُرَص العمل لكسْب الحدّ الأدنى الحامي من الجوع!
أزمات طرابلس قديمة قِدَم وجود الكيان اللبناني. وهي تكبر وتتعاظم في أزمنة الأزمات السياسية. بل إنّ التداعيات الاجتماعية والسياسية لأي أزمة، تبدو أول ما تبدو في طرابلس.

هناك إهمالٌ شديدٌ للمدينة من سائر الحكومات عبر تاريخ لبنان المعاصر. وما تابعت تلك الحكومات أي مشروعٍ إنشائي أو استثماري بدأته فيها، ومع أنّ رئيس الحكومة اللبنانية هو دائماً سني بحسب التقسيمة الطائفية، وثلث رؤساء الحكومات خلال خمسين عاماً هم من طرابلس! 
وبسبب الفقر المدقع لدى ثلث سكان المدينة، يكون من السهل أن تكسب الجماعات الراديكالية شعبيةً فيها. ومعظم الذين يتحزبون لهذه الجهة أو تلك إنما يفعلون ذلك باعتباره وسيلةً من وسائل العيش. ولذلك تتكاثر في التاريخ الحديث والمعاصر لطرابلس الجماعات الناصرية والبعثية واليسارية وأخيراً وليس آخِراً الإسلامية، بل وأنصار «حزب الله»! ولأنّ الإسلاميين الأشاوس (وأعدادهم لا تتجاوز الآلاف الخمسة) هم الأسرع لامتطاء السلاح، فقد صارت مشهورةً بالتطرف، وسمّاها وزير الدفاع اللبناني الأسبق الياس بوصعب: قندهار لبنان! وقد نشبت بين باب التبانة (السني) وجبل محسن (العلوي) فتنة مسلحة استمرت سنواتٍ وسنوات، وسقط فيها مئات القتلى، وهناك المئات من شبابها في السجون من سنواتٍ أيضاً بتهمة الإرهاب! أما في الهَوجة الأخيرة ولحسن الحظّ، فإنّ هناك تضامناً حميماً بين الحيَّين الفقيرين السني والعلوي! 
عندما نشبت «الثورة» في لبنان قبل حوالى العامين ضد الفساد والطبقة السياسية، وشملت كل المناطق الإسلامية والمسيحية، اعتُبرت طرابلس عروس الثورة. وما حصلت في شهورها الأُولى، رغم كثافة أعداد المتظاهرين، ضربة كفٍ واحد.

فالقابليات السلمية لشباب المدينة وكهولها مشهودةٌ أيضاً. لكن عندما تراجعت موجات الثوران، وعند المسيحيين قبل المسلمين، بقي الطرابلسيون في الشوارع وحدهم، بل كانت مجموعاتٌ منهم تأتي إلى بيروت لإعانة ثوارها! إنما في ذلك الوقت (بعد ثمانية أو تسعة شهور) عاد العنيفون والذين يميلون للتحطيم والتكسير إلى الظهور. فالأجهزة اللبنانية السرية (والضعيفة عادةً) قوية في طرابلس، بسبب إمكان الاستقطاب والاختراق. فالذين حطّموا شارع المصارف بالمدينة، وأحرقوا مبنى البلدية، لا يزيد عددهم على الثلاثين، وما تقاضوا على عملهم الجليل إلاّ أقلّ من ثلاثمائة ألف ليرة! 
ماذا يحدث اليوم في أنحاء لبنان؟ هناك اضطراب عام. لكنّ الأكثر في شوارع طرابلس وبيروت وصيدا والبقاع هم من شبان السنّة. فتذمرُ الطوائف الأخرى أكثر انضباطاً ولديهم قيادات تُنزلهم أو تُخرجهم من الشارع. وما عادت لدى السنة قيادة أو قيادات ضابطة أو راعية. بل إنّ الإحصائيات (وإن لم تكن دقيقةً دائماً) تشير إلى أنّ أهل السنة بعامة هم الأشد فقراً في لبنان، رغم كثرة الأغنياء بينهم! ولله الأمر من قبل ومن بعد!


*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية