في لقاء جمعني بالرباط مؤخراً مع بعض الشخصيات السياسية المتميزة، جرى الحديث حول أوضاع منطقة المغرب العربي والساحل في إطار التطورات الهامة التي تشهدها المنطقة من ليبيا إلى مالي وتشاد.
كان السؤال الذي شغل الأصدقاء هو: هل ثمة خيوط رابطة بين أزمات المنطقة، من الحرب الأهلية الليبية التي لا تزال عصية على الحل، رغم محاولات التسوية القائمة، إلى تشاد التي شهدت اغتيال حاكمها القوي على أرض المعركة مخلِّفاً موتُه فراغاً أمنياً واستراتيجياً خطيراً، إلى الانقلاب العسكري الجديد في مالي الذي جرى في ظرفية تصاعد الهجمات الإرهابية في قلب إقليم الساحل؟
كان الجواب الذي قدمتُه للأصدقاء هو أن تداخل إقليمي المغرب العربي والساحل حقيقة بديهية لا مراء فيها، وقد ذكر أحد الحاضرين، وهو من الشخصيات الديبلوماسية المرموقة، بما سمعه من الملك الراحل الحسن الثاني من كون فكرة الاتحاد المغاربي في حدوده المحصورة في بلدان شمال أفريقيا هي في أصلها فكرة استعمارية فرنسية ليس لها مقومات استراتيجية موضوعية. وقد كرر المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي الأطروحة ذاتها بالقول إن الهوية الصحراوية هي العمق الاستراتيجي والمجتمعي لبلدان المنطقة من مصر إلى المغرب، في ارتباط عضوي بإقليم الساحل الذي شكل منذ العصور القديمة المجال الحيوي للمغرب العربي.
لن نقف عند المعطيات الجيوسياسية والحضارية لتكامل المنطقتين، وقد ألمحنا إليه في مقال سابق، وإنما أردنا أن نشير إلى بعض المستجدات البارزة نعتقد أن لها تأثيراً حاسماً على مستقبل المجال الساحلي الصحراوي في عمومه.
أهم هذه المستجدات تتعلق بالسياسات الأمنية الإقليمية والدولية التي أصبحت محور الفعل السياسي الداخلي، والمقاربات الديبلوماسية المطروحة لمعالجة أزمات المنطقة. وغني عن البيان أن التحدي الأكبر الذي تعيشه بلدان الإقليم، في حدوده الموسعة، هو معضلة السلم المدني والاستقرار السياسي. ولا ينحصر الأمر في موجة الإرهاب العنيف الذي يضرب منذ سنوات قلب منطقة الساحل (الحدود المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو)، بل باندلاع المطالب القومية والإثنية في شكل تنظيمات مسلحة أصبحت هي القوى الفاعلة في الحقل السياسي من ليبيا إلى دارفور في السودان. ولهذه الظاهرة نتيجتان بارزتان؛ أولاهما تصاعد دور المؤسسة العسكرية في الحقل السياسي، وثانيتهما تفاقم الاستقطاب الجيوسياسي في المنطقة التي أصبحت في صدارة بؤر التوتر في العالم.
وبغض النظر عن الأسئلة المطروحة بخصوص المعادلة الانتقالية الحساسة في السودان، حيث يبدو من غير الواقعي تنحي القادة العسكريين عن دفة الحكم، لا تظهر من تطور الأوضاع السياسية في ليبيا إمكانية نجاح أي حل لا يستند لدور مركزي للجيش الوطني الموحد القادر على تأمين البلاد من مخاطر الفتنة الداخلية والأطماع الخارجية. ولقد تجلى من النموذجين التشادي والمالي أن الأطراف الإقليمية الأفريقية والقوى الدولية أصبحت واعيةً بأن المؤسسة العسكرية وحدها المؤهلة لإدارة المراحل الانتقالية في البلدان التي تعيش مصاعب الانتقال السياسي وتردي الأوضاع الأمنية. إن هذا النقاش مطروح بالحدة ذاتها، ولو من خلفيات مغايرة، في الحالة الجزائرية أيضاً، وحتى في الحالة التونسية حيث ليس للجيش رصيد سابق في العمل السياسي (طرح عدد من قادة الجيش المتقاعدين مؤخراً مبادرةً للحل السياسي في تونس).

ومن هنا السؤال المطروح في المنطقة حول طبيعة النظام السياسي، من حيث المطالب الديمقراطية واستمرارية الدور المحوري للمؤسسة العسكرية في ضمان الاستقرار السياسي: هل يكون الحل هو تعميم النموذج الجزائري، حيث تحكم قيادات الجيش من خلف الستار، أم النموذج التشادي حيث تتولى المؤسسة العسكرية السلطة مباشرةً وفق قواعد التنافسية الانتخابية الصورية؟
أما الاستقطاب الدولي فقد أصبح حقيقةً جليةً، فرضت إعادة النظر في احتكار فرنسا الورقة الساحلية واقتحامها الساحةَ الليبية، حيث منطقة نفوذها السابقة في إقليم فزان الذي هو المفتاح الاستراتيجي لمنطقة الساحل. ومما يتعين التنبيه إليه هنا الرجوع المفاجئ لروسيا إلى المجال الساحلي من البوابة المالية، حيث الحضور العسكري الفرنسي الكثيف الذي لم يفض لنتيجة ملموسة بعد ثماني سنوات على عملية التدخل العسكري المباشر هناك. والمعروف أن القادة الانقلابيين الجدد في مالي قد تكوّنوا في روسيا واحتفظوا بروابط قوية مع الأجهزة العسكرية والأمنية فيها، وأعلنوا مؤخراً خطوات ملموسة للتقارب مع موسكو، على غرار ما تم في السنوات الأخيرة في دولة أفريقيا الوسطى التي انحسر فيها النفوذ الفرنسي التقليدي.
إن هذه المعطيات ستكون لها دون شك آثار حاسمة على التوازنات الاستراتيجية في منطقة الساحل والصحراء في المدى المنظور.