في ظل ما يعاني منه الإنتاج الفكري، والثقافي في بلداننا من انحياز لأحد مسارين، إما التقوقع، أو الانفتاح لحد ضياع الهوية، يجيء أمثال القامة العلمية الفذة المفكر الدكتور رضوان السيد بفكر ناضج أُسست جذوره على النفحات الأزهرية، ونمت براعمه ناهلةً من مختلف المناهج الفكرية الغربية الحديثة، مقدماً في ذاته نموذجاً جامعاً بهي التناغم فيما بين أدواره الفاعلة كجامعي فلسفي، وعالم دين، وطالب علم جهبذ.

ويطرح السيد صاحب الشخصية الفكرية النقدية، من خلال علمه ومخزونه المعرفي الثري، الملامح البارزة الموجهة نحو المساقات الفكرية المأمولة، واستشراف المستقبل الباهر للمجالات التي اهتم بعنايتها، من خلال ذاته المازجة بين إرادة الإبحار في التجارب القديمة والحديثة واستيعابها بموضوعية «الطالب»، والمحاولة «النقدية» للإمعان فيها والكشف عما ورائها من خلال التحليلات الفاهمة الملمة، ذات الارتكاز العلمي البحثي المنهجي المَعوز. 

إن المفكر اللبناني رضوان السيد يقر بما أسماه «الآخرية» في الثقافة والفنون واللون والحرفة، والرأي، والذي يقارع الخطأ بقلمه، وبإيمانه بضرورة «الآخر» الذي يعني وجود أسباب الاتفاق والتفاوض، وينهي دوافع الاختلاف والتناحر، إذ أنه ومن خلال «ريشته» الأكاديمية، عني ب«إنقاذ المسلمين من ماضيهم تارةً، أو إنقاذ النصّ والتاريخ من مسلمي الحاضر»، كما يقول نفسه عن مؤلفه الموسوم بعنوان «الأمة والجماعة والسلطة»، من خلال دراسته للتجربة الإسلامية دراسةً متعمقة، مسلطاً الضوء على جل الانعكاسات الخاطئة التي أقحمت في صلب الدراسة التاريخية والاجتماعية، المتولدة بفعل بعض الرؤى الأنثروبولوجيّة، والبنيويّة السائدة في السبعينیات والثمانينيات في مجالات قراءة النص، كما أضاف السيد فارقاً نوعياً من خلال ما أضافه في مقاربته الجديدة، الخارجة عن التكرار والاستهلاك التحليلي والنقدي في ظاهرة «الجماعات» من حيث نشوئها، وتداخلاتها، عاقداً «تلاقٍ متوائم» بين كل من النص والتاريخ في سياق النص القرآني، والمجتمع السياسي الإسلامي، والجماعات الوظيفية الإسلامية، والمجموعات غير الإسلامية في «دار الإسلام»، والإشارة بـ«ذكاء» لمدلولات «العرب» كجماعة في ذلك المجال الحضاري، وذلك في جنبات مؤلفه (مفاهيم الجماعات في الإسلام)، المنضوي على دراسات في السوسيولوجيا التاريخية للاجتماع العربي. 

ولطالما عرف رضوان السيد بالداعي للتعارف من أجل التكامل، بدعوته لإدارة البوصلة نحو التجديد في الخطاب الإسلامي، بداعي وصوله لثمرة ناضجة، وهذا نتاج رحلته البحثية المتواصلة والغنية، ففي كتابه (الإسلام المعاصر)، عكس نضوجاً متقدماً في فهم ومدارسة وقائع ظهور «الإسلام السياسي»، وعمل على تحليل منطقي واعٍ لما للأهداف والأبعاد السياسية التي تسعى بعض الجماعات على تحقيقها وراء ستار «التدين»، والدين، من خلال دراسة متأنية لعمليات تسييس الإسلام في المناهج، واستنطاق الكتاب الكريم، والسنّة المطهرة، وتجارب الخلفاء الراشدين، وغيرها من جهة، وتسييس الإسلام من خلال مختلف الأحداث والوقائع من جهة أخرى، وذلك من مثل «التكون الحزبي للحركات الصحويَّة»، و«وانفجار الإسلام الجهادي»، وغيرهما. 

ولم يتوقف السيد عند ذلك الحد، فيما قدمه من عشرات الكتب والمؤلفات، مسترسلاً في دراسة التاريخ الديني والثقافي للإسلام في كلاسيكيته، والملفت في دراسته تلك ما حظيت به المفاهيم من المحورية من مثل: (الأمة، والجماعة، والدولة، والسنّة، والشريعة، والدين، والفقه، والكلام) من «احتضان» فوق «تربة» بيئتها، ودون سلخ المفاهيم عن موطنها وسياقها الحضاري، والثقافي، مضيفاً لهذه الأرضية الخصبة تدرجاً في فهم طبيعة العلاقة بين الجماعة، والدولة من جهة، وبين الدين والدولة من جهة أخرى، ليتبعها بدراسة «ظهور أهل السنّة». في محاولة تقديم صورة شمولية بين طيات كتابه الباحث عن زوايا السلطة الإيديولوجية المتشعبة في جسد السياسة العربية الإسلامية (الجماعة والمجتمع والدولة).

وفي كتابه (سياسات الإسلام المعاصر)، الذي نشره عام 1997، وضع يده على «الجرح» بتوصيف إشكالية الفكر الإسلامي الحديث الرئيسة، المتمثلة في الهوية ومقتضياتها وأساليب ووسائل حفظها، فالدراسات في الفكر الإسلامي المعاصر كما عبر عنها السيد هي أصول الفكر الإسلامي المعاصر، «وبيئاته، وعلائقه، وخصائصه، وموضوعاته، واهتماماته، وإمكانياته المستقبلية». الأمر الذي يبرز عنايته الحثيثة في مستجدات العصر وأدواته والتي تشبه تماماً عناية أهل قريته التي نشأ فيها، بتخصيب التربة المأمول منها طرح موسم خصب!

التكريم الذي استحقه الصحفي، والمترجم، والكاتب، والأستاذ الجامعي، الدكتور رضوان السيد مؤخراً، ليقف متوجاً بـ«جائزة النيل للمبدعين العرب»، لعام 2021، والتي تعتبر أرفع جائزة تمنحها الدولة المصرية للمبدعين في مجالات الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، من أرض الثقافات جمهورية مصر العربية «أم الحضارات»، إضافةً لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الدراسات الإسلامية التي نالها السيد عام2017، لا تعد استحقاق كفاية، بل هو استحقاق عناية، سيما أنه بمعرفته الواسعة، وثقافته الزاخرة «الثقيلة» يشكل بوصلة تيسر الدرب على كثر من المفكرين العرب، وتجعلنا نسير في اتجاه «بعيد البصر والبصيرة»، قريب جداً من الإنجاز والتطور. 


أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة