أقر مجلس الشيوخ الأميركي مؤخراً، وفي لحظة تفاهم نادرة بين «الديمقراطيين» و«الجمهوريين»، مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات كبيرة في العلوم والتكنولوجيا، واعتُبر قانوناً «تاريخياً» لمقاومة الاقتصاد الصيني. وقد أكد الرئيس جو بايدن في هذا الصدد على أن الولايات المتحدة «تخوض منافسةً لكسب رهان القرن الحادي والعشرين». وأردف الرئيس: «مع مواصلة البلدان الأخرى الاستثمار في أنشطة البحث والتطوير الخاصة بها، لا يمكننا أن نتخلف عن الركب»، مؤكداً ضرورة أن «تحافظ أميركا على مكانتها باعتبارها الدولة الأكثر إبداعاً وإنتاجية في العالم». وتقضي الخطة بتخصيص أكثر من 170 مليار دولار لأهداف البحث والتطوير، وتسعى بشكل خاص إلى تشجيع الشركات الأميركية على أن تنتج على الأراضي الأميركية أشباه الموصلات التي تتركز صناعتها حالياً في آسيا. وتعاني عدة قطاعات أساسية، بدءاً من الاتصالات ووصولاً إلى السيارات، من نقصٍ في هذه الموصلات، مما يعكس البعد الاستراتيجي لهذه الصناعة.
وينص مشروع القانون على تخصيص مبلغ 52 مليار دولار على مدى 5 سنوات، لتشجيع الشركات على تصنيع الرقائق وأشباه الموصلات في الولايات المتحدة. وخلال عرضهم النص، قال برلمانيون: إن الحزب الشيوعي الصيني يستثمر «أكثر من 150 مليار بكثير» في هذه التقنيات. كما ترصد الخطة الأميركية 120 مليار دولار للوكالة الحكومية «مؤسسة العلوم الوطنية» لتشجيع البحث في مختلف المجالات التي تعتبر رئيسية، مثل الذكاء الاصطناعي. كما تشمل 1.5 مليار دولار لتطوير شبكة الجيل الخامس (5 جي) للاتصالات التي تشكل إحدى القضايا الخلافية الأساسية بين الصين والولايات المتحدة. وتبحث إدارة بايدن منذ أشهر عن طرق لتعزيز الإنتاج المحلي لمجموعة من المكونات الصناعية، مثل الرقائق، لتقليل اعتمادها على الموردين الأجانب. 
فمجلس الشيوخ اتخذ إذن خطوة حاسمة إلى الأمام من الحزبين من أجل القيام بالاستثمارات الضرورية لاستمرارية الولايات المتحدة كرائد عالمي في الابتكار. ولا يتعلق هذا التمويل فقط بمعالجة النقص الحالي في أشباه الموصلات إنه استثمار طويل الأجل خاصة في مجال الذكاء الصناعي، فالذي سيفوز في السباق على تقنيات المستقبل، مثل الذكاء الاصطناعي، «سيكون قائد الاقتصادي العالمي»، فالأمم «تصنع العالم على صورتها». وقد أكد لي مؤخراً أحد أعمدة التنمية والاقتصاد السيد الوزير محمد القباج، وفي صورة مجازية معبّرة، أن الدول التي تحقق الإصلاحات الذكية في المجالات الاستشرافية والتنموية والاقتصادية هي التي يمكنها أن تفوز برهانات المستقبل، وهذه الإصلاحات يجب أن تكون عبارة عن قاطرة محركة تجلب كل عربات القطار، بمعنى أن بعض الاستثمارات الذكية يمكنها أن تجلب معها كل أشكال التنمية وتضمن الرقي والتقدم والتموقع الجيد للمجتمعات، أما تضييع الوقت في إصلاحات هامشية فلا يمكن أبداً أن يحرك قطار التنمية.
لهذا فهمت العديد من الدول أن كسب رهان المستقبل قائماً على الاستثمار في مجالات استراتيجية على رأسها الذكاء الصناعي. وفي بلداننا العربية يجب أن نطرح سريعاً مسألة التخصصات ووظائف المستقبل في ظل التحولات المتسارعة وغير المسبوقة التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهي التي تثير بدورها العديد من التساؤلات حول مستقبل منظومة التعليم وعلاقتها بوظائف المستقبل، وخاصة في ظل الدراسات التي تتوقع أن تحلّ الروبوتات والأجهزة الذكية مكان الإنسان في الكثير من مجالات الحياة والوظائف خلال السنوات المقبلة. فالدول التي ستتموضع أكثر في قائمة الدول الناجحة علمياً هي الدول التي ستنجح في تطوير القوى العاملة الوطنية وتعزيزها بشكل مستمر، وبما يتناسب مع التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، لا سيما في مجالات الاقتصاد المعرفي والثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي. وهذا يستلزم تطوير البرامج والمناهج الدراسية اللازمة لتأهيل الكوادر البشرية القادرة على التعامل مع تقنيات الثورة الصناعية الرابعة. ولا بد في هذا السياق من تأهيل المعلمين والأكاديميين والتأكد من امتلاكهم القدرات المعرفية والمهارات التي تساعدهم على نقل المعارف والمهارات الحديثة إلى الطلبة والاهتمام بالجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تصاحب عملية التغيير التكنولوجي.
فالاستثمار في التعليم وفي رجال التعليم، وفي التقنيات وفي العمال والاستثمار في الابتكار «المحرك» والبحث والتطوير، كل هذه العناصر مجتمعة هي السبيل الوحيد لتحقيق ريادة دولة المستقبل.

*أكاديمي مغربي