أدلى فريد بلحاج نائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتصريحات بالغة الدلالة عن الأزمة اللبنانية لفتني فيها تشخيصه الموضوعي الدقيق للأزمة اللبنانية، وأُشدد على هاتين الصفتين، لأن هذا النوع من المؤسسات المالية الدولية عادة ما يُتهم بأن له أجندته الخاصة التي تُعلي مصالح القوى الرأسمالية المهيمنة. وقد وردت هذه التصريحات في حديث لبلحاج أجرته معه الفضائية البريطانية كان جوهره أن الوضع في لبنان بات خطيراً، ومع ذلك فليس هناك أي تحرك لمعالجته، وأرجع هذا إلى عجز النخبة اللبنانية عن اتخاذ أي قرار للخروج من الأزمة، حتى أنه أسماها «نخبة اللا قرار».

واعترف الرجل بصعوبات الأوضاع الداخلية والضغوط الخارجية على لبنان، لكن هذا لا يبرر الجمود الراهن المستمر لسنوات طويلة. وليست هذه هي المرة الأولى التي يدلي فيها بلحاج بهكذا تصريحات، ففي عام 2018 على سبيل المثال صرّح بأن الاتجاه إلى الإصلاح يفقد الزخم، وأن تعهدات المانحين للبنان باتت في خطر. وفي أبريل الماضي ذكر في حديث لوكالة «بلومبيرج» أن لبنان يتعين عليه أن يكون على استعداد للقيام ببعض التغيير من أجل الحصول على مساعدات تمويلية دولية، وبعبارة أخرى فإنه بحاجة إلى مساعدة نفسه كي يمكن للآخرين أن يساعدوه. واستطرد: «لسوء الحظ لم يكن لبنان مهتماً أو راغباً أو قادراً على مساعدة نفسه».
والواقع أن تشخيص الحالة اللبنانية المعقدة بات شديد الوضوح، فالبنية الاجتماعية بالغة التعقيد المبنية على التشظي الطائفي والنظام السياسي الذي يعكس هذه البنية يعقِّدان كثيراً عملية صنع القرار في لبنان. والمشكلة أن المصالح الراسخة لزعماء الطوائف اللبنانية في استمرار الوضع الراهن تجعلهم على استعداد لفعل أي شيء لضمان هذا الاستمرار تأميناً لتلك المصالح، بما في ذلك قبول التبعية لقوى خارجية لا تتسق مصالحها مع المصالح الوطنية اللبنانية بالضرورة، على نحو يجعل من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن «لبنان» ككيان واحد، لأن زعماء الطوائف الذين يعرقلون أي خطوة في الاتجاه الصحيح للإصلاح يعتبرون أن «لبنان» يتماهى معهم وأن مصالحهم هي مصالحه.

ومن هنا يستحيل التوصل إلى إجماع وطني، وحتى لو بزغ أدنى أمل في تحقيق مثل هذا الإجماع فإن القوى الخارجية تتدخل لوقف التحرك في الاتجاه الصحيح، مع أن الخبرة الواقعية بأحوال الشعب اللبناني تشير إلى أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية باتت عابرة للطوائف، حيث بدأ الوعي يتزايد بضرورة «الحل الوطني» للمعضلة اللبنانية، بدليل الحراك الشعبي الذي تفجر في 2019 وكانت دلالاته شديدة الوضوح على تزايد الوعي بأنه آن الأوان للبنان كي يعْبر المرحلةَ الطائفية من تاريخه إلى الآفاق الرحبة للوطنية. وكان شعار «كلن يعني كلن» بالغ الدلالة على هذا الوعي، فالكل يجب أن يُفسَح الطريق لمرحلة جديدة.

لكن البنية الطائفية شديدة الجمود والمصالح الراسخة لزعمائها، وكذلك للقوى الخارجية المستفيدة من هذه البنية.. تصدت بكل السبل الممكنة للحراك حتى أجهضته ولو إلى حين. بل إن هذه البنية والقوى الخارجية الداعمة لها نجحت في الإفلات حتى الآن من تداعيات الفشل في مواجهة جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت وتفاقم الأزمة الاقتصادية على نحو غير مسبوق في نموذج فريد لإعلاء النخب السياسية مصالحها الذاتية على المصالح الوطنية، لسبب بسيط مفاده أنها تعتبرهما شيئاً واحداً، والمعضلة أن استمرار هكذا وضع مستحيل على المدى الطويل، فإما انفجار تكون تداعياته السياسية أشد وطأةً من تداعيات انفجار مرفأ بيروت، وإما تطور تدريجي بطيء في الاتجاه الصحيح، لا أظن أن أوضاع لبنان الراهنة، محلياً وإقليمياً وعالمياً ستصمد حتى يؤتي ثماره. 

 

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة