تقرير خطير للبنك الدولي في شأن لبنان، لكنه لم يحرّك ساكناً لدى الوسط السياسي، كما لو أنه لم يصدر، أو لم يقرأه سوى خبراء لا صلاحية لهم ولا دور، أما أصحاب القرار فبدَوا متّفقين على تجاهله؛ فهو لا يخبرهم شيئاً لا يعرفونه، لكنهم مع ذلك لم يروا فيه ما يحفّزهم على الاستجابة لدرجة الخطورة القصوى التي بلغتها الأزمة. تطغى مراقبة التفاصيل على الاهتمام بالمعالجات، وكلّها يفسّر ما ذهب إليه التقرير: تضخّم فوضوي هائل يجعل الأسعار فلكيةً، فيما تواصل العملة الوطنية خسائرَها المتسارعة، الغذاء مغامرة يومية للحصول على المواد الأساسية، ندرة الدواء تتزايد أكثر فأكثر، شحّ الوقود يضرب كل القطاعات إلى حدّ أنه ينذر بظلام شامل وشيك، وبتعويقٍ للحياة العامة وإبطاءٍ كبير أو تعطيل لشبكة الإنترنت.
وصُنّفت الأزمة اللبنانية بأنها من بين الثلاث الأشد سوءاً، عالمياً، منذ منتصف القرن التاسع عشر. وبعدما حذّر من «تنامي المحفزات المحتملة لنشوب اضطرابات اجتماعية»، اختصر البنك الدولي توصيفه لتفاقمها بـ«التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الإنقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة»، مستخلصاً أن «أي نقطة تحوّل لا تلوح في الأفق». يوم تصدّر التقرير عناوين وسائل الإعلام، كان الوسط السياسي يعطي دليلاً جديداً على استعصاء تشكيل حكومة يُفترض أن تنكبّ على الإصلاحات المزمنة المطلوبة لتمكين لبنان من التعاطي مع صندوق النقد الدولي وسائر المؤسسات الدولية كي تساعده في معالجة أزمته. لكن، مرةً أخرى، تغلّب «التقاعس» على إرادة الإنقاذ، وباتت المعاندة في تحاصص الوزارات، طائفياً وسياسياً، أقوى من واجب العمل لوقف الانهيار الشامل.
وكان الخوف من هذا الانهيار قد تعاظم بعد تفجير مرفأ بيروت، وجرت محاولات لإشاعة شيء من الأمل، خصوصاً بعد المبادرة التي صاغها الرئيس الفرنسي بتشاور مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبعض العواصم العربية. لكن منظومة الحكم وجدت مصالحها مهددةً بعدما أسقط المجتمع الدولي ثقتَه بها، بسبب فسادها، وطالب بـ«حكومة اختصاصيين مستقلّين غير حزبيين» لتنفيذ الإصلاحات. وأصبح معروفاً في الداخل والخارج أن قوى سياسية عدّة تضافرت لتعطيل ولادة الحكومة بهذه الصيغة، وأبرزها تحالف «حزب الله» وحزب رئيس الجمهورية («التيار الوطني الحرّ»). ويعني ذلك بوضوح أن هذين الحزبين يديران الانهيار على كل المستويات، ويراهنان على متغيّرات إقليمية ودولية تمكّنهما من إقامة «نظام لبناني جديد» يكونان محوره على حساب الطوائف والفئات الأخرى.
يرى العديد من الخبراء أن لبنان تدرّج منذ أواخر عام 2019 بأكثر من مرحلة انهيار إلى أخرى، وسبق لوزير الخارجية الفرنسي أن شبّهه بسفينة «تايتنيك» الغارقة، وها هو يقترب سريعاً مما يُعتبر مرحلة الارتطام بقاع المياه. حكومة مستقيلة ومشلولة، مؤسسات غير فاعلة، مجلس نيابي متخبّط بين مصالح أعضائه وخيارات أحزابه، رئاسة فاقدة لأي حسّ توافقي جامع... إلى عهد قريب، كان لبنان يتطلّع إلى مبادرات خارجية، عربية أو دولية أو مشتركة، لمساعدته على تخطّي أي أزمة كبرى، غير أن الحزبين المستأثرين بالسلطة فرضا نوعاً من العزلة على البلد وهو في أكبر أزمة في تاريخه، أزمة لم يعد مبالغاً القول بأنها وجودية. تعدّدت المخارج المطروحة أخيراً، من حكومة عسكرية إلى انتخابات مبكرة، بل حتى انتخاب مبكر لرئيس آخر، لكنها أفكار اليائسين في قلب المتاهة. 

*كاتب ومحلل سياسي -لندن