حصلتُ على جائزة النيل للمبدعين العرب لعام 2021، ففوجئتُ بالفعل لعدة أمورٍ وظواهر، منها اهتمامات المؤسسات الثقافية المصرية والمثقفين المصريين، ومنها الانتشار الواسع، ومنها القبول الشاسع، ودلالات ذلك كلّه على حاضر الثقافة العربية ومستقبلها القريب. فجائزة النيل ترشّح لها الجامعات المصرية، والمجلس الأعلى للثقافة، وتتفرغ لمناقشة الاختيار لجانٌ من العلماء والأساتذة المختصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وهي ليست للتشجيع والتقدير، إذ لذلك كله لدى الدولة المصرية (ممثَّلةً بوزارة الثقافة) جوائز أخرى كثيرة. فجائزة النيل بالذات هي للكبار في التفكير والنشر (والسن بالطبع!)، بمعنى أنها تتناول المسار الطويل للمفكر والكاتب، كما أنها استطراد تتناول الإنجاز والتأثير. وهي تُعطى بالطبع للأفراد، وفي ثلاثة مجالاتٍ (للمصريين)، وواحدةٌ منها فقط لمن يُسمَّون «المبدعين العرب». 
وهكذا ما ترشحتُ للجائزة بنفسي، وإنما علمتُ بترشيح جامعة القاهرة فقط، لأنّ رئيسها الصديق الأستاذ محمد عثمان الخُشْت طلب مني سيرتي العلمية الذاتية. الزميلان المصريان اللذان فازا كبيران ومؤثران لأربعة عقودٍ وأكثر. وقد جرى حول اسميهما اختلافٌ، بدليل حجب الجائزة الثالثة. لكنّ الجائزة الرابعة، أو جائزة المبدعين العرب، والتي صارت إليّ، كما ذكر بعض أعضاء اللجان في تصريحاتٍ لوسائل الإعلام بعد صدور الإعلان من وزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم، كانت بشبه إجماع. الاختلاف طبيعي بالنسبة للمصريين لأنّ الكبار بينهم عديدون، والجائزة مصرية. لكنْ هل طبيعي أن لا يُختلف على الاسم العربي؟ أنا أرى أنّ شبه الإجماع هذا ليس ظاهرةً سلبية، فليس صحيحاً ما يقوله شبانٌ كثيرون من أنّ الإجماع وهو غير التسليم ينافي دائماً حق الاختلاف عند العرب المحدثين. 
ولجهتي فقد كنتُ شديد الاعتزاز لأنّ الجائزة مصرية. مصر هي الرائدة منذ قرنٍ ونصف في صنع الثقافة العربية الحديثة كما كانت في الكلاسيكية. وثقافتها الرحبة والشاسعة تأسيسيةٌ في تكويني الفكري. فعندما ذهبت إلى مصر عام 1966 للدراسة بالأزهر كنت في السابعة عشرة من العمر، فكل الذي تفتح عليه عقلي الناشئ وعيوني القارئة مصري حتى في الفنون والسينما والمسرح، فضلاً على الدراسات الدينية والتراثية والفلسفة والعلوم الاجتماعية، والمترجم من الفكر الغربي والثقافة الغربية. وحتّى ذهابي بعد مصر للدراسة في ألمانيا كان سببه تأثري بشخصيات أساتذتي بالأزهر الذين درسوا هناك، وفي طليعتهم الدكتور محمد البهي، والدكتور محمود زقروق. ومصر ليست جامعةً ودراسةً فقط، بل كانت وما تزال حياةً وروحاً مشبوباً في التوجيه والإيحاء والإلهام والريادة في المسار السياسي العربي، وفي نقاط التركيز والاهتمام الثقافي.
الجائزة مصرية، وهذا هو موضع الاعتزاز الأول. إنما تأتي بعد ذلك عدة أُمور: الانتشار والتأثير، والقبول والاعتراف. لقد فوجئتُ بالفعل بانتشار كتاباتي وأفكاري في مصر والعالم العربي. وأدركتُ ذلك من ردود الأفعال في الإعلام خلال خلال اليومين الأولين لحصولي على الجائزة. ولا يُعتبر ذلك غريباً من جانب زملائي المصريين والعرب الآخرين الذين يقاربونني في السنّ والاهتمامات، بل وأيضاً من الأجيال الأصغر. فحتى سفير مصر ببيروت الدكتور ياسر علوي، وهو صديقٌ قديمٌ ومثقفٌ واسع الاطّلاع، لكنْ من اختصاصاتٍ واهتماماتٍ أُخرى، راح يذكر في الإعلام أسماء كتبي والمجلات التي أصدرتُها. أما أستاذنا الدكتور جابر عصفور فذكر الشمولية في الاهتمامات، كما ذكر القبول من مختلف الاتجاهات الفكرية والثقافية. قال مرةً عني إني أعظم علماء التراث الأحياء، لكنه يقول اليوم إنه معجبٌ بالاقتدار على القبول الواسع، بعكسه هو الذي يستثير الخلافات غالباً!
لستُ من كبار مستخدمي وسائل التواصل ولا حتى من صغارهم. لكنْ يبدو أنه وعلى مدى أربعة عقود، كنتُ محرراً لعدة مجلاتٍ فكرية، كتب فيها مئات المثقفين الذين حفظوا لي ذلك. وهكذا فقد كنتُ أملك وسيطاً للدعوة لأفكاري وتوجهاتي في أكثر الوسائل انتشاراً في المرحلة الماضية، ومنذ مجلاّت اللبنانيين في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وعلى رأسها «المنار»، وإلى مجلة «الاجتهاد» التي أصدرتُها مع الأستاذ الفضل شلق في مطلع تسعينات القرن العشرين. عجيب كم ذُكرت «الاجتهاد» بمناسبة حصولي على جائزة النيل، رغم أنها توقفت عام 2004!
إنّ العامل الآخر في الانتشار الواسع هو الاهتمامات، فقد انشغلْتُ بالموضوعات التي كانت في صُلب النقاش والخلاف والصراع في البيئات الفكرية والثقافية والسياسية العربية مثل مسألة التراث، والتاريخ الديني والثقافي للأمة، وضرورات الإصلاح الديني في وجه الأُصوليات. وإلى ذلك فإنني منذ عقدين أكتب في الصحف العربية، خارج الكتابات المتخصصة في الكتب والمجلات الأكاديمية. وبالطبع فإنه حتى في مقالات الصحف تبدو الاهتمامات الفكرية بارزة. 
بجائزة النيل لدينا شاهدٌ جديد على وحدة الثقافة العربية، وعلى توجه مصر الكبير وثباتها في قلب ثقافة العرب والعصر. 

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية