حب الوطن سمة مميزة للمصريين يتعلمها التلاميذ في درس مشهور لجيل قديم كان يسمى «التربية الوطنية» قبل أن يصبح «المقرر القومي» بعد ثورة 23 يوليو 1952. ومنذ الثورة العرابية عام 1882 ثم ثورة عام 1919 ثم اشتداد الحركة الوطنية في أربعينيات القرن الماضي، فقيام الثورة المصرية عام 1952.
انحسر المد الوطني شيئاً فشيئاً من حركة شارع إلى حركة حرم جامعي، ومن انتفاضة شعبية إلى مظاهرة طلابية. وبدت الحاجة إلى صياغة جديدة لمبادئ وطنية استئنافاً وتطويراً للأربعينيات، أي الاستقلال الوطني ووحدة وادي النيل. ويبدو أن حركة وطنية جديدة تتبلور الآن تتركز على مؤسسات المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية.. في الداخل، والاعتماد على الذات والتكيف مع العولمة واقتصاد السوق.. في الخارج. صحيح أن البطالة وأزمة الإسكان والصرف الصحي والحياة النقية والنظافة والمواصلات والخدمات العامة مازالت مطروحة في الداخل، لكن الانشغال بها لا يمكن أن يكوّن رؤية سياسية واعية كتمهيد لرؤية سياسية خارجية أكثر استقلالا، وكأن إشباع الحاجات يتم خارج الرؤية السياسية العامة لتفاعل الداخل والخارج. 
إن مصر في التاريخ لها منزلة خاصة أدركها العلماءُ وكل من نزل بها مقيماً؛ فهي أم الدنيا كما سماها ابن خلدون، وهي مصر المحمية، ومصر المحروسة عندما بدأ الاستعمار يطمع في ممتلكات «الرجل المريض». يرعاها الله، ويحميها من غوائل الزمان. وهي مذكورة في القرآن خمس مرات. مصر بلد الاستقرار والسكن، ومكان العيش والحياة.. يأتيها الناس ولا تذهب إليهم، الهجرة إليها وليست منها، يتخذونها قبلة ومقراً: «وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة». مصر يسكنها الأنبياء وذووهم، ويظهر بها القادة العظام، وتعيش فيها القبائل، وتعجزها الشعوب. صحراء تحتاج إلى تعمير، وأرض تستدعي البناء من أهلها. إن تركها أهلها بلا تعمير استعمرها غيرها، واستوطن فيها وبنى فيها البيوت، وأقام المدن، وأنشأ المزارع، وشيد المعسكرات.. لأن أهلها لم يستقروا فيها، ولم يبنوا فيها، ولم يحولوها إلى كتل بشرية تحمي صدورها، وتمنع غزوها، وتصد العدوان عنها.
ومصر بلد الأمان، ولا حياة دون أمان، ولا استقرار دون أمن: «وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين». كان يوسف في مصر آمناً، ودخل أبواه مصر آمنين. ويعني الأمن في مصر أن يشعر الإنسان أنه يعيش في بلد آمن؛ فهو آمن على نفسه، وآمن على أهله، وآمن على عمله ومستقبله، وآمن على قوله وفعله، وآمن على فكره ورأيه.. أي الأمن الغذائي والأمن الفكري والأمن السياسي.
ومصر بلد الكرم والسخاء، بلد يجد فيها الغريب موطناً له ومستقَراً، كأنه مواطِن من شعبها، وابن لأسرها: «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا». ليست مصر إذن بلد الدخلاء عليها الذين يأتون لنهب ثرواتها والاستيلاء على أرضها وخيراتها، وتهريب أموالها والاستحواذ على مدخراتها. مصر بلد الزرع والنماء، ومصدر الخير والرخاء. لذلك لما ضاقت بقوم موسى سبل العيش، وملوا الطعام الواحد، سألوه البقول والقثاء والفول والعدس والبصل، فقال موسى: «اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم». ومازالت مصر بوفرة محصولها مطمع مَن تضيق بهم الأرض، ومَن تعز لديهم مصادر المياه. مصر هي ريفها وقراها، وشعبها هم فلاحوها ومزارعوها، ولذلك لا يمكن أن تأكل مما لا تنتجه أيدي أبنائها؟

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة