كلما طرأت أزمة في الشرق الأوسط، تردد التساؤل المتبقي من مخلفات القرن العشرين ليأتي للقرن الجديد وعشريته الثانية، وقد يصل للثالثة وللرابعة دون قدرة على تحقيق الإجابة الشافية حول كيفية تزاوج اليسارية بالإسلام السياسي بشقية السُني «الإخواني» والشيعي الخميني، الأيديولوجيات التي صنعت شكل العالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. وجدت في الحرب الباردة البيئة الأكثر ملائمة لتفريخ الشحنات الضمنية، حتى وإنْ تذرعت بسباق المعسكريين الرأسمالي والماركسي في الصعود إلى القمر.
إذا كانت حركة اليسار تشعر بخيبة كبرى بعد أن سقط جدار برلين وتهاوى الاتحاد السوفييتي، فإن اليسار العربي كان بل ولا زال يعيش الخيبة العظمى من نكسة 1967 والصدمة التي حاول أن يتحملها الزعيم جمال عبدالناصر بشجاعة وجسارة وهو يخوض غمار معاركه في مساندة الشعوب لتحقيق التحرر الوطني. التيار الناصري فعلياً تلقى الضربة القاتلة، غير أنه في وجدان الشعوب ظل عبدالناصر ساكناً محافظاً بهالته التي لا يمكن استيعابها حتى وإنْ فات على وفاته عقود من الزمن، حتى إنه ما زال حياً في أجيال لم تعرف من عبدالناصر غير ما احتفظت به ذاكرة التاريخ.

الشعارات الثورية التي صنعتها حركة اليسار والقدرة اليسارية في صناعة الرمزيات النضالية حتى أن تشي جيفارا الذي كان ثائراً في كوبا تحول لأيقونة النضال في عموم العالم حتى في المناطق الأكثر خصومة لأفكاره، لم تستطع برغم السنوات الطويلة من المناقشات الفكرية في معاقل الرأسمالية تبرير تباهي الشبان بحمل صور جيفارا وترديد شعاراته كلما وقعت أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية داخل الدول والنظم الرأسمالية.
ويفسر علماء النفس أن المجاميع عند شعورها بالغضب فإنها تلجأ لتفريغ الاحتقان بممارسات تتعلق بشخصيات خالدة عرفت بالثورة على الخيبة والانكسار، وهذا ما يبرر أن النقابات العمالية حول العالم تجد في تجمعاتها انحياز للأفكار الثورية حتى وإن كانت يسارية لأنها تمثل العلاقة المضادة مع الرأسمالية.

اليسار العربي المكسور وجد في «خطب الكاسيت» للإمام الخميني شيء من ما يمكن أن يكون تنفسياً عن المحطات التعيسة من النكبة إلى النكسة، وحتى الصدمة برحيل عبدالناصر. كانت خطب الخميني التي توزع سرياً في المدن والأرياف العربية قادرة على تطبيب شيء من الخيبات النفسية مع انعدام السياق الفكري. اليسار العربي المأزوم في سبعينيات القرن العشرين وجد في الثورة الإيرانية الشيء المفقود الذي يخرج التيار اليساري من أزمته.

الخميني نفسه أدرك منذ نزوله على طائرة فرنسية إلى مطار طهران أنه قادر على أن يستحوذ على ما هو أبعد من ملايين الإيرانيين الذين استقبلوه على أنه ممثل للإمام المهدي المنتظر والوكيل الإلهي في الأرض، كانت لحظة مختلفة في التاريخ لم يستوعبها غير الخميني والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، فهذه لحظة فارقة حين تنشغل الجماهير بالتصفيق والصراخ ويغيب عنها العقل.

لم تعي الأنظمة العربية آنذاك تلك اللحظة الوليدة في الضفة الأخرى من الخليج العربي، الماركسيون الشيوعيون الذين كانوا مازالوا أقوياء، فالسوفيت ما زالت رايتهم الحمراء ترفرف وتقتحم دباباتهم كابول. وتحت هدير الجماهير كانت حالة تلاقح تحدث برغم العيون المفتوحة والأضواء الكاشفة لمشهد كان له ما بعده.
الإسلاميون بتياراتهم وجدوا في اليسار العربي الشعارات الثورية، والأهم من ذلك أنهم وجدوا العالم السري والأقبية التي استفاد منها تيارات الإسلام السياسي لتمرير أشرطة الكاسيت، التي لم تعد محصورة على الخميني بل كانت وسيلة لدعاة جماعة «الإخوان» لتدشين حقبة أخرى سميت بمرحلة (الصحوة).
التزاوج بين التيار الإسلاموي واليساري العربي أعمق من تزواج طارئ وعلاقة عابرة، بل بات علاقة متعصبة ومتشددة مع وجود إنظمة تمكن لحالة التزاوج بالبقاء لتحقيق منافع متبادلة، حتى وإن تلقت ضربات عنيفة كما حصل في مصر والسودان بسقوط حكم جماعة «الإخوان» فيهما، غير أن الواقع يقول إن الزواج المحرم سيظل قائماً بوجود أنظمة سياسية تستفيد من تغييب العقل وتحشييد الجماهير بخطابات الموت لأجل اللاشيء غير أن يبقى الزواج المحرم حياً.


* كاتب يمني