ستراجع الولايات المتحدة توجهاتها السياسية والاستراتيجية في الشرق الأوسط بعد أن سكتت المدافع في قطاع غزة وفي إسرائيل، خاصة مع سرعة الحركة الأميركية في الإقليم، وقد اتضح ذلك من خلال الاتصالات السياسية مع الدول العربية المعنية بملف القضية الفلسطينية. الإدارة الأميركية اكتشفت أن هناك فارقاً بين ما تريده نظرياً، وتخطط له قبل وصول الإدارة الأميركية للبيت الأبيض وبين الواقع المستجد، إذ أمعنت الإدارة الأميركية في التركيز على الملف النووي الإيراني، وهو بلا جدال ملف مهام إضافة إلى الاستدارة شرقاً، والعمل على تحجيم النفوذ الصيني، وإعادة بناء الأولويات في أوروبا أمنياً واستراتيجياً.
ومع أول مواجهة عسكرية في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين اكتشفت الإدارة أن هناك بوناً كبيراً يتسع بين الرؤية المنشودة، وبين الواقع المتطور، فكانت الحركة السريعة عقب اندلاع الأحداث في غزة وإسرائيل لتدخل على الخط تخوفاً من دخول أطراف دولية أخرى تتحين الفرصة. كما بدلت مسارات تحركاتها سريعاً من خلال طرحها لرؤية عاجلة للتهدئة، مع التركيز على الأطراف الإقليمية التي لها خبرات متراكمة في التعامل، وهو ما تم على عجل من خلال تحرك وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والذي حلّ ضيفاً على المنطقة لثبيت الوضع الأمني والمشاركة في تفعيل التهدئة، والتأكيد على الحضور السياسي المباشر ودعم الحلفاء الإقليميين الذين أداروا الأزمة، ونجحوا في التوصل إلى نقطة توازن لخطوة لاحقة، وهو ما سيفرض على الإدارة الأميركية الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية والاشتباك السياسي مع ما يجري والإقدام على خطوات فعالة، وترجمة الأقوال إلى أفعال.
والواضح أنه لم يعد كافياً مجرد الدعوة إلى «حل الدولتين»، كمسار للحل والإقرار بالحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني، وإنما مطلوب تبني مسار واضح يُترجم إما بالدعوة لاستئناف الاتصالات الأميركية مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والعمل معاً من خلال دعوة الأطراف المختلفة إلى واشنطن لعقد مؤتمر عربي- إسرائيلي بدعم أميركي، والانتقال بعدها إلى الشرق الأوسط حيث القاهرة وعمّان، لبدء الاتصالات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بمشاركة أميركية، وإما الدعوة لعقد مؤتمر إقليمي أوسع لبدء هذه الخطوة ومشاركة الدول العربية الرئيسة، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، وتوسيع نطاق ما سيطرح أميركياً عوضاً عن الإخفاق في التوصل إلى مقاربة حقيقية مع إيران حتى الآن. 

الإدارة الأميركية ستعاود العمل في الشرق الأوسط الكبير، والتركيز على تطوراته مع دعم اتفاقيات السلام العربية- الإسرائيلية، وتقديم رسائل تطمينات إلى الإقليم، وهو ما سينطبق على الملفات المفتوحة، التي لم تحسم مثل الملفين اليمني والليبي إضافة للملف الفلسطيني، كما ستقايض روسيا في بعض الملفات المتعلقة بأمن إقليم شرق المتوسط، إضافة للأمن الأوروبي، مقابل حلحلة المشهد في سوريا في ظل التطورات الداخلية. ستنخرط الإدارة الأميركية مجدداً في الشرق الأوسط لتقرير حساباتها، ودعماً لحلفائها الاستراتيجيين، وستعمل من الآن فصاعداً على إدارة الصراعات القائمة مع التواجد في تفاصيلها تخوفاً من انفراط العقد وترقب القوى المناوئة، وهو ما أدركته السياسة الأميركية بعد التطورات الأخيرة، وستركز عليه في المرحلة المقبلة.
* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية