يرى السياسيون الحرب والسلام من نافذة المصالح وتوازن القوى وتحقيق رؤى المستقبل، ولكن العسكريون يرون الحرب ويحسبونها دائماً من بوابة القوة والضعف والربح والخسارة، ويتوقفون طويلاً عند قائمة الخسائر المعنوية والمادية، وأثرها الشديد على المستقبل، لذلك يقدمون تقاريرهم الدقيقة للسياسيين الذين عليهم اتخاذ القرار الأكثر صعوبة في الأوقات الأكثر حرجاً.
عندما اندلعت حرب الأحد عشر يوماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم نجد أن هناك من يحسب حجم الخسائر على الطرفين، ووقف العالم مذهولاً لمدة أحد عشر يوماً وهو يشاهد النزيف الذي لم نعلم سبباً حقيقياً له، سوى النزعات العاطفية التي أدت لتكديس الخسائر في غزة وفي الجانب الإسرائيلي، والتي تدلل على أنه لم يكن هناك سياسيون وعسكريون حقيقيون يتخذون القرارات الحاسمة في الأوقات الحرجة، بل كان هناك نزعات انتقامية تضخمت على حساب الرواسب التاريخية جعلت إسرائيل تفتك بأهالي غزة، وجعلت صواريخ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» عمياء في ضرب أهداف مدنية لم تتسبب في أي خسائر عسكرية.
هل يمكن أن يكون القرار السياسي والعسكري في إسرائيل هو فقط تدمير الأنفاق التي تستخدمها «حماس» وإنهاك القوة العسكرية في غزة وتصفيتها؟ لو كان هذا صحيحاً، فإن قيادات «حماس» و«الجهاد» قد تم جرجرتهم إلى حرب الأحد عشر يوماً، وأن حسابات الربح والخسارة لديهم كانت كلها فاشلة بامتياز. أما إذا كان القرار السياسي في إسرائيل، هو دفع السلطة الفلسطينية لتقديم تنازلات جديدة في المفاوضات التي يمكن أن تحدث في المستقبل، فإن قيادات «حماس» و«الجهاد» قد قدمت أيضاً خدمة عظيمة للجانب الإسرائيلي.
هناك جوانب إسرائيلية يعرفها الجانب الفلسطيني عن ظهر قلب، فإسرائيل تعمل بقوة على كسب التعاطف الدولي، ليس إعلامياً فحسب، فهذا لم يعد يهمها كما في الماضي، بل كما حدث حين أطلق صدام حسين صواريخ سكود على إسرائيل في بداية تسعينيات القرن الماضي، فحصلت إسرائيل على دعم مادي يزيد على مبلغ ملياري دولار بالإضافة إلى معدات عسكرية متقدمة، منها بطاريات الباتريوت وغيرها. وها هي اليوم، وكما تصرّح الإدارة الأميركية، ستحصل إسرائيل على دعم كبير نتيجة صواريخ «حماس» و«الجهاد»، وبالمقارنة مع حجم الدعم المقدم للفلسطينيين، وحجم الخسائر في غزة، فإن ما سيحصل عليه الفلسطينيون يعد مجرد فتات لا قيمة له.
العجز عن تقديم تفسير منطقي لحرب الـ 11 يوماً سببه غياب الرؤية الواضحة والشاملة لمستقبل العلاقة الفلسطينية- الإسرائيلية، وكذلك غياب التآلف في العلاقات الفلسطينية الفلسطينية نفسها، فمنذ عام 2006 ليس هناك قرار فلسطيني موحد مع كافة المحاولات العربية لوأد الانقسام الفلسطيني، والذي عجز الجميع عن تفسيره أيضاً، حيث تماطل «حماس» بكافة الوسائل للدفع بالمزيد من تقسيم الفلسطينيين، ومن الصعب الآن القبول بفكرة أن قيادة «حماس» ما زالت متعلقة بكرسي السلطة فقط!
الرؤية التي قامت في منطقة الشرق الأوسط خلال العام 2020 على مبدأ السلام، بتوقيع الاتفاقية الإبراهيمية بين الإمارات وإسرائيل، يجب أن تستمر بإرساء السلام ولا تنتهي بخسائر مادية ومعنوية ورؤية الدماء تتناثر هنا وهناك، ولو أن الفلسطينيين قد عملوا مع الجانب الإماراتي بنوايا حسنة وطيبة منذ قرار وقف ضم الأراضي الفلسطينية، وعملوا أيضاً على التمسك بخيار السلام وبادرو إلى تقليل حجم الهوة بينهم، لكنا اليوم لا نحتفل بنصر وهمي، بل نحتفل بنصر حقيقي في إرساء السلام.
الإمارات ومنذ سبتمبر 2020 لم تتراجع قيد أنملة عن خيارها الاستراتيجي في إرساء السلام الذي جاء بناء على جميع الحسابات السياسية والعسكرية التي يدركها المتخصصون ويعلمون أنها تم حسابها بدقة متناهية لا تقبل الفشل على الإطلاق، واستمرت حتى يومنا هذا بدعم الجهود المصرية والأردنية وكذلك الجهود الأميركية لحقن الدماء، بما فيه خير للفلسطينيين أولاً وللإسرائيليين ثانياً وما فيه من واقعية وعقلانية وحكمة لتحقيق السلام العادل والشامل لجميع شعوب المنطقة.
الحرب لن تنتج سوى الدماء والضغينة والانتقام، ولا يمكنها أن تنتج الود والمحبة، لذلك حان الوقت اليوم لعودة مفاوضات فلسطينية إسرائيلية جادة وحقيقية تقوم على أساس حل الدولتين وإنهاء هذا الصراع المحتدم سنوات طويلة دون طائل وبلا جدوى، لذلك فإن الرؤية الإماراتية التي أوجدت أرضية حقيقية مشتركة قائمة على مرجع تاريخي هام لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه، وهو أن جميع شعوب المنطقة هم «إبراهيميون» وأن الاختلاف العقائدي والسياسي يجب أن يصب في مصلحة تطور الشعوب وتقدمها وأمنها وليس لتصفيتها عن بكرة أبيها.

* لواء ركن طيار متقاعد