هل تتمحور القضية حول من سكن القدس قبل الآخر؟ فالحفريات التي تعود إلى 6000 سنة قبل الميلاد مرتبطة بهجرة القبائل العربية من الجزيرة العربية إليها كما يرى العرب؟ أو بعد ذلك بألفين أو ثلاثة آلاف سنة بوصول بني إسرائيل إليها حسب الرواية اليهودية؟ ولقد كان معنى كلمة «فلسطيني» قبل قيام دولة إسرائيل يشير إلى أي شيء يرتبط بالمنطقة، حتى لو كان يهودياً، ففي الصحافة مثلاً، تأسست أول الصحف المحلية اليهودية بموازاة نظيراتها العربية تحت مسمى «The Palestine Post»، وحينها كان اليهود يمثلون الثلث في المكون السكاني والفلسطينيون الثلثين، قبل أن يقرر الغرب أن تكون فلسطين دولة لليهود في المنفى.
إذاً لا يمكن الاستناد على البعد التاريخي كحقائق دامغة، حيث «من لا يملك» الأرض قام بمنح فلسطين وتقسيمها لمن جاءوا من كل حدب وصوب من بقاع الأرض ليستوطنوها عنوة، ويتم طرد سكان المنطقة من موطنهم، وهذا هو بيت القصيد من دون مقدمات، حيث تم انتزاع حقوق مشروعة بقوة السياسة أو السلاح أو التهديد والتلاعب والتزوير. وما لا يختلف عليه كحقيقة، أنه لا يوجد أي مسلم على وجه الأرض يمكن أن يقبل التفريط في أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين. والقضية الفلسطينية لا تختزل في فصائل متناحرة ومقاومة يراها البعض تتحرك حسب الأجندات، وتتحرك قبل كل انتخابات رئاسية، بل هي قضية كل عربي ومسلم، والفلسطيني العادي غير المنتمي للفكر الجماعي التنظيمي - الذي يدار عن بُعد عبر البحار والمحيطات - لا يقاوم كي يستبيح الحرمات ويعيث في الأرض فساداً، بل كي لا يضيع حقه.
فاليوم هناك معادلة مختلفة فرضت نفسها، ويجب التعامل معها وفق المعطيات الحقيقية على الأرض وتجنب التفكير العاطفي الحالم، فمن استرجعوا حقوقهم عبر التاريخ، لم تكن الإدانات من استرجعتها، ولا الصراعات العشوائية الأقرب للسيناريوهات المدبلجة والتي تثير حماس الشارع. وفي المحصلة النهائية يستمر الوضع على ما هو عليه، بل يزداد سوءاً، ومن يعاني ليس القيادي الذي يعيش في فيلا فخمة في أحد عواصم الدول الغنية، ولكنه المواطن الذي يعيش من دون كهرباء وماء وخدمات أساسية ويتعرض للقصف، والآخر في مأمن ويصرخ أمام شاشات الإعلام الموت للغاصب ويختم يومه بالليالي الملاح، وغيره يحضر العزاء تلو الآخر وينام في الشارع، ولا يجد لمصابيه مكاناً في المستشفيات ولا لموتاه أرضاً يدفنون بها!
ومن جهة أخرى، فالصهيونية ليست مجرد حركة قومية وظّفت الدين كطريقة للحشد وتأجيج المشاعر، بل هناك ارتباط أكثر عضوية بين الدين والقومية وفكرة «نفي المنفى»، وإزاحة أو طرد الفلسطينيين من فلسطين كي تصبح وطناً ‏قومياً ‏فيه أغلبية يهودية، والفلسطينيون في فلسطين تحولوا في الوعي الصهيوني إلى‏ سكان «فائضين عن الحاجة» ويجب التخلص منهم، دون أن ننسى الطابع الأيديولوجي السياسي للحركة الصهيونية التي تجمع بين العنف من ناحية، والإيمان بطهارة السلاح والتفوق الأخلاقي من ناحية أُخرى، وهو جزء من المشروع الأوروبي الحضاري، وبتقصّي جذور الصهيونية في أوروبا‏ نفسها وقيام صهيونية غير يهودية متأصّلة في التراث الأوروبي.
ومن جانب آخر، لا تزال القدسُ الأرضَ الفلسطينية الوحيدة التي ضمتها إسرائيل دون سندٍ قانوني منذ 1967، وهناك العديد من الخطط والقرارات والمشاريع والقوانين لتحقيق هذه الغاية، وذلك كمشروع «قانون القدس الكبرى» لعام 2017، والذي يهدف إلى ضم المستوطنات المحيطة بالقدس، ولهذا تعد خفايا أزمة القدس متشعبة، وحل الدولتين ليس حلاً قبل أن تكون القدس دولةً دينية على غرار الفاتيكان، وعاصمةً للعالم أجمع. وأتساءل في النهاية: لماذا تُهاجم إسرائيلُ بصواريخ بدائية والبلد الذي به مكة والمدينة يتعرض لهجمات بصواريخ بالستية ذكية وطائرات مسيرة من دون طيار، ولم نسمع عن مظاهرات وغضب في الشارع العربي لإدانة «الحوثي» ومن يقف وراءه؟ فهل من يسلح «الحوثي» يختلف عمن يقف وراء «صواريخ المقاومة»؟ مجرد تساؤل! 

* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.