نشر الدكتور محمد سالم وزير الاتصالات المصري الأسبق مقالة مهمة في صحيفة «الشروق» المصرية في 19 مايو الجاري بعنوان: «الذكاء الاصطناعي أم إنترنت كل شيء.. هل من خيار؟»، تعرض فيها لمفهوم «إنترنت الأشياء»، أي استخدام البنية التحتية للاتصالات لربط الآلات بعضها ببعض، حيث جاء رواد منصات التواصل الاجتماعي والتليفونات المحمولة ليربطوا البشر ولتكتمل الدائرة: بنية تحتية وربط الآلات بعضها البعض وربط الإنسان بغيره من البشر والآلات، وفي التوقيت نفسه تقريباً عادت الحياة لمفهوم الذكاء الاصطناعي مدعوماً بتقنيات الجيل الخامس للاتصالات والحوسبة العملاقة. وفي هذا الإطار بدأت الآلة تحل محل الإنسان، واستشهد الكاتب بمقولة ستيفن هوكينج في عام 2014 بأن تطوير الذكاء الاصطناعي الكامل يمكن أن يؤدي إلى نهاية الجنس البشري، وأن الآلات «سوف تنطلق منفردةً وتعيد تصميم نفسها بمعدل متزايد باستمرار». وقد توقفت عند هذه العبارة تحديداً إذ ذكرتني بجدل حديث حول مفهوم «الفاعلين الدوليين من غير الدول» non-state international actors في العلاقات الدولية، ولنبدأ القصة من بدايتها.
عُرفت العلاقات الدولية تقليدياً على أنها محصلة التفاعلات بين الدول، وعقب الحرب العالمية الثانية برزت ظاهرة «الفاعلين الدوليين من غير الدول»، أي القوى التي تؤثر في العلاقات الدولية دون أن تكون دولاً، وتمثلت هذه القوى في صور عديدة كحركات التحرر الوطني التي ازدهرت عقب الحرب الثانية وأجبرت القوى الاستعمارية على التفاوض معها، والشركات متعددة الجنسيات التي تبنّت سياسات لا تتطابق مع سياسات الدول التي ينتمي إليها مؤسسو هذه الشركات. كذلك ظهرت التنظيمات الإرهابية التي لعبت دوراً مؤثراً في التفاعلات الدولية كحالة تنظيم «القاعدة» الذي لعب دوراً في مواجهة التدخل السوفييتي في أفغانستان أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتنظيم «داعش» الذي أسس لنفسه «دولة» على أجزاء من إقليمي العراق وسوريا في عام 2014 استمرت لأكثر من ثلاث سنوات. وقد استوعب تحليل العلاقات الدولية هذه التطورات بحيث لم يعد ممكناً تحليل بعض الظواهر الدولية دون أن تؤخذ ظاهرة الفاعلين الدوليين من غير الدول في الحسبان.
غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، ففي أحد اجتماعات اللجنة التي تجيز صلاحية الموضوعات للرسائل العلمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه في كلّيتي، قُدم موضوع عن «الأسلحة الذكية» كان واضحاً منه أن الباحث يتبنّى فكرة أنها يمكن أن تكون لها تصرفاتها الذاتية المستقلة، واعترضتُ بشدة على الفكرة على أساس أنها من صنع بشر ينتمون لدول بعينها ومن ثم لا يمكن اعتبارها «فاعلاً دولياً مستقلاً»، فهي أداة بيد الدولة التي صممتها وصنعتها ووظفتها لتحقيق أهدافها. وفي المدة الواقعة بين إعادة المشروع لصاحبه لإدخال التعديلات التي طلبتها اللجنة والاجتماع التالي لها، وقعت حادثة الصاروخ الذي سقط بالقرب من المفاعل النووي الإسرائيلي، واستمعت إلى أحد الاحتمالات التي قدمها محلل عسكري مرموق، ومفاده أن الصاروخ وفقاً لخاصية الذكاء الاصطناعي الموجودة فيه ربما يكون قد غيّر مساره في محاولاته الهروب من مضادات الدفاع الجوي، وتوقفت طويلاً عند هذا المعنى، فصحيح أن دولة ما قد أطلقته باتجاه هدف معين، لكن خاصية الذكاء الاصطناعي فيه ربما تجعله يصيب هدفاً آخر، ووجدت أن المسألة ليست بالبساطة التي كنت أتصورها، وهاهو الدكتور محمد سالم يذكّرنا بمقولة هوكينج الحاصل على نوبل بأن الآلات «سوف تنطلق منفردة وتعيد تصميم نفسها بمعدل متزايد باستمرار»، ودخلت في حيرة من أمري! فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من التطور البشري، بما فيه العلاقات الدولية، تلعب فيها الآلة في إطار الذكاء الاصطناعي دوراً ذاتياً في التفاعلات الدولية؟ وما آثار ذلك وسبل التحسب له؟


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة