منذ أن أقرّت المملكة المتحدة قانون الانفصال عن الاتحاد الأوروبي –البريكست- كانت أوروبا وخاصة فرنسا تتوقع مواجهة مشكلة في الشمال (إيرلندا). ولكن المشكلة جاءت من الجنوب (جزيرة جيرسي). فإيرلندا الشمالية صوّتت ضد البريكست ولكنها عضو في المملكة المتحدة التي صوّتت معه. اضطرت الحكومة الإنجليزية أن تتخذ تشريعات استثنائية لاحتواء المشكلة، ونجحت في ذلك. إلا أن ما لم تكن تتوقعه هو أن تنفجر المشكلة في الجنوب حول قضية حقوق الصيد مع فرنسا.
في الأساس، فإن العلاقات بين شمال فرنسا وجنوب انجلترا لم تكن دائماً علاقات ودية. قامت بين الدولتين حرب المائة عام (1337-1453). وقبل ذلك في عام 1066 احتلّت فرنسا (النورماندي) انجلترا واستعبدت كبار رجالاتها. وبعد ذلك في عام 1431 احتلت انجلترا فرنسا، حتى أن الملك الإنجليزي في ذلك الوقت هنري السادس، وكان يبلغ من العمر عشرة أعوام فقط، أصرّ على أن يتوَّج ملكاً على فرنسا في كاتدرائية نوتردام، تحديداً في قلب باريس، ورمزها الأهم حتى اليوم.
وامتدت «مملكته الفرنسية» بين بوردو في الجنوب وكاليه في الشمال، ومن شيربروغ إلى ديجون. وكان والده الملك الإنجليزي هنري الخامس هو الذي احتلّ فرنسا واستعمرها وأوصى بها لابنه الصغير. وذلك بعد معركة «أجينكوت» الفاصلة التي جرت في عام 1415.
واستناداً إلى الدراسات التاريخية، فإن الاحتلال الإنجليزي لفرنسا ما كان ليتحقق لولا الصراعات الفرنسية الداخلية وخاصة بين المناطق الشمالية والمناطق الغربية منها، والتي استمرت ثلاثين عاماً وأدّت إلى استنزاف قوى المنطقتين الفرنسيتين معاً. وتؤكد الوثائق التاريخية أنه خلال هذه الفترة من الصراع الداخلي، انخفض عدد سكان منطقة النورماندي الفرنسية إلى النصف، مما سهّل على الملك هنري الخامس عملية الغزو والاحتلال.
ولما مات الملك الإنجليزي هنري الخامس فجأة عام 1422 وأوصى بالعرش لابنه –هنري السادس- وزّع الفتى الصغير المناطق الفرنسية التي احتلها والده على أفراد عائلته الذين تصارعوا فيما بينهم. ووقعت «حرب الزهور» التي استنزفت قدراتهم. حتى أن الملك هنري السادس دخل في حرب ضد عمّه تشارلز السابع فوق الأرض الفرنسية المحتلة. ولم تنفع قوات الدعم التي عبرت بحر المانش إلى فرنسا للمساعدة في تغيير الموقف المحتوم.
استغلّ الفرنسيون الفرصة وتمكنوا خلال سنتين- وبعد أن شكلوا ولأول مرة في التاريخ العسكري، قوات ثابتة- من إلحاق الهزيمة بالقوات الإنجليزية المرهقة والمشتتة.
وفي الأساس ما كان للمملكة الإنجليزية في فرنسا أن تعمّر طويلاً. فقد أنهكها إضافة إلى الصراعات العائلية، انتشار المجاعة والأمراض (حتى أن الذئاب كانت تقتات على لحوم البشر). كما أنهكها تمرّد الفرنسيين الذين أرهقتهم الضرائب المرتفعة التي فُرضت عليهم. وخلافاً لحالة الفرنسيين المزرية، كان على الإنجليز في المملكة الإنجليزية في فرنسا أن يمارسوا الفروسية كل يوم أحد حتى يبقوا مؤهلين للدفاع عن المملكة. ولكن ذلك كله انتهى بالهزيمة القاضية التي حملت الإنجليز على اجتياز البحر عائدين إلى بلادهم، تاركين وراءهم فرنسا ممزقة وجائعة.
وهم في طريق العودة أنشأوا في جزيرة جيرسي حامية عسكرية واتخذوها حصناً متقدماً للدفاع عن انجلترا إذا ما حاولت فرنسا الانتقام. غير أن هذه الجزيرة سرعان ما تحولت إلى مركز للصيادين الإنجليز والفرنسيين معاً. ذلك أن الشواطئ المحيطة بها والقريبة منها غنية بأنواع مختلفة من الأسماك وثمار البحر التي يعشقها الفرنسيون.
وطوال سنوات انضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي نادراً ما كانت تقع خلافات بين الصيادين الفرنسيين والإنجليز. فالبحر لهم معاً. ولكن بعد بريكست تغير الوضع ليفجّر الذكريات التاريخية المؤلمة التي لم يمحها الدم المشترك الفرنسي – الإنجليزي الذي أُزهق دفاعاً عن الدولتين في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لا يعني ذلك أن باريس ولندن تواجهان طريقاً مسدوداً بسبب السمك. ولكنه يعني أن المملكة المتحدة لم تؤمن أبداً بأنها جزء من أوروبا. فالمحيط الأطلسي الذي يفصلها عن الولايات المتحدة الأنجلو- سكسونية، هو أصغر من بحر المانش الذي يفصلها عن فرنسا. والشاهد على ذلك جزيرة جيرسي!
* كاتب لبناني