لم يعد هناك حديث في الصالونات الفرنسية وفي وسائل الإعلام إلا عن تداعيات مقال نشره منذ أسابيع عسكريون فرنسيون، بينهم 20 جنرالاً ومائة ضابط رفيع المستوى وأكثر من ألف عسكري آخرين، في صحيفة أسبوعية محافظة متشددة، هي مجلة «فالور أكتويل»، يتحدث عن «تفكك» فرنسا، تلته رسالة من زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن تدعوهم إلى المشاركة في الانتخابات. ويدين هؤلاء العسكريون «التفكك» الذي يضرب فرنسا و«يتجلى في نظرهم عبر شيء من معاداة العنصرية، بهدف واحد هو خلق حالة من الضيق وحتى الكراهية بين المجموعات»، معتبرين أنه «تفكك يؤدي مع الإسلاموية وجحافل الضواحي، إلى فصل أجزاء عديدة من الأمة لتحويلها إلى أراض خاضعة لعقائد تتعارض مع الدستور الفرنسي». ورغم أن بعض موقِّعي المقالة سيواجهون عقوبات، فإن نفس المجلة نشرت منذ أيام مقالاً جديداً بعنوان «من أجل بقاء بلادنا» كتبه عسكريون في الخدمة لم يفصحوا عن أسمائهم وفتحوه لجمع التواقيع، وتخطى عدد الموقعين على المقال 36 ألف شخص. 
وجاء في المقال الموجَّه إلى الرئيس إيمانويل ماكرون والوزراء والنواب وكبار الموظفين: «تحركوا (..) الأمر لا يتعلق هذه المرة بمشاعر رهن الطلب أو بصيغ مبتذلة أو أصداء إعلامية. ليس المطلوب تمديد ولاياتكم أو الفوز بولايات أخرى. بل ما يوجد على المحك الآن هو بقاء بلادنا، بلادكم». ويعرِّف موقِّعو المقال أنفسهم بالقول: «نحن من أطلقت عليهم الصحف اسم (جيل النار)». وكتبوا: «سواء في أفغانستان أو مالي أو أفريقيا الوسطى أو مواقع أخرى، واجه عدد منا نيران العدو. وبعضنا خسر فيها رفاقاً». وأحدث كل هذا صخباً وجدلاً داخل الطبقة السياسية، إذ اعتبر البعض أن ذلك أشبه بدعوة إلى التمرد، خاصةً من أقوام تستدعي مهامهم واجب التحفظ، فيما حيا آخرون انتفاضةً ستنقذ البلاد على أيدي أناس يعون ما يقولون.
ولا جرم أن نرى في مثل هذا المجال السياسي العام الجديد المشحون بصراعات جديدة لم تعهدها الجمهورية الخامسة في تاريخها، قيام الحكومة الفرنسية بردات فعل مؤسساتية كمشروع القانون الجديد الذي قدمه وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، أمام مجلس الوزراء، وهو مشروع مؤلف من 19 بنداً حول الاستخبارات ومكافحة الإرهاب في البلاد التي شهدت في السنوات الأخيرة موجة اعتداءات غير مسبوقة نفذها متطرفون وأوقعت أكثر من 260 قتيلاً. ويهدف مشروع القانون الجديد، قبل كل شيء، إلى «تحديث» و«تعزيز» عدد من أحكام قانون الاستخبارات وقانون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب. ومن أبرز المواد التي يتضمنها إمكانية تمديد تدابير المراقبة الفردية (الإقامة الجبرية) «إلى حد سنتين» بعد الخروج من السجن بدلاً من سنة واحدة في القانون الحالي، بالنسبة للأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن ثلاث سنوات على أقل تقدير مع النفاذ بتهم الإرهاب. كما يسمح النص الجديد باتخاذ تدابير قضائية ضد هؤلاء «الخارجين من السجن»، لكن الجديد في مجال الاستخبارات الأمنية، وعلى شاكلة ما نشاهده في المسلسلات الأميركية من قبيل «بلاك ليست»، أن مشروع القانون يقترح استخدام تقنية «الخوارزمية» من أجل الحصول على بيانات لكل مَن يستخدم الإنترنت ومعالجة هذه البيانات. والهدف من هذه التقنية هو كشف كل الأشخاص الذين يميلون إلى التطرف الديني أو أولئك الذين يخططون ربما للقيام بأعمال عنيفة، فضلاً عن متابعة تصرفاتهم. ففي حال شاهد شخص ما مثلاً عدة مرات شريط فيديو يظهر عملية قطع الرؤوس على الإنترنت أو على مواقع التواصل الاجتماعي ومحتويات أخرى ذات طابع إرهابي، فإن المديرية العامة للأمن الداخلي ستطلب الإذن من ثلاثة أشخاص، من بينهم ممثل اللجنة الوطنية للإعلام الآلي والحريات في فرنسا، من أجل كشف هوية هذا الشخص. وأوضح وزير الداخلية أن هذه التقنية سمحت للشرطة بإحباط مخططين إرهابيين في البلاد منذ عام 2017.
جرأة الجنود الفرنسيين الذين أرادوا التدخل في المجال السياسي العام، وطبيعة مشروع القانون المطروح حول مكافحة الإرهاب، تأتي كلها قبل سنة واحدة من الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو 2022، وهو ما يوحي بأن قضايا الأمن في فرنسا، بل وفي العديد من الدول الغربية، تشكل أولوية لغالبية المواطنين الغربيين بعد الأزمة الصحية.

*أكاديمي مغربي