لا زالت البحار الأوروبية تبتلع الآلاف المؤلفة من اللاجئين العرب والأفارقة في أموجها المتلاطمة، وقد أصبح وضعهم مثل الذي «يستجير من الرمضاء بالنار»، هاربين من الفقر والبطالة في بلدانهم ومن التعرض للقتل على أيدي المرتزقة والمليشيات العابرة للحدود والتي استباحت أراضيهم وعبثت بها ومزقتها، وهدمت منازلهم وقتلت أبناءهم وهجّرت عوائلهم. وفيما يتعلق بهجرة اللاجئين الهاربين من الفقر والموت ومن جحيم الحروب في بلدانهم، فقد وصل الأمر إلى مستوى المأساة والغرابة غير المسبوقة، وإلا فهل من المعقول أن بلداناً تطرد مواطنيها وتتخلى عنهم بهذه الصور الصادمة؟! المجتمع الدولي لم يتفاعل مع مأساة اللاجئين ولم يضعها في أُطُرها الإنسانية بشكل فعال وسريع وجدي، كما ينبغي، ولم يقدم الاحتياجات المطلوبة لإنقاذ ملايين المهجّرين واللاجئين لحمايتهم من الظلم والعنف والقهر والتهجير والإقصاء والتعذيب والقتل والتهديد بالتصفية.. لذلك تجدهم يلقون بأنفسهم في البحار والغابات وعلى الأسلاك الشائكة.. عبر دروب الرحيل الوعرة والهروب القسري، والآلاف منهم تبتلعهم أمواج البحر، في أخطر مشهد مأساوي منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا فضلا عن اللاجئين في المخيمات المؤقتة التي تواجه نقصاً مزمناً في احتياجاتها، فاقمته جائحة كورونا التي عطلت وصول المساعدات الطبية والغذائية. ولو عمّقنا البحث في هذه المأساة الإنسانية لوجدنا كوارث مركبة متشعبة الأطراف والاتجاهات، ناهيك عن التعقيد الشديد الذي تتسم به. فهي نتاج قرارات غير مسؤولة ولا تحترم حقوق الإنسان ولا تعنى بتوفير الشروط المطلوبة لحياة الفرد داخل وطنه.. كما أنها مشكلة اجتماعية بامتياز، إذ تعد عوامل الفقر والمرض والجوع والأمية، عوامل أساسية مساهمة فيها، لاسيما في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية ومالية وسياسة متشعبة، والتي ساهمت في تصدير ملايين اللاجئين وآلاف المهجَّرين والهاربين لأسباب داخلية متعددة، منها سياسي وطائفي ومذهبي وأثني. والواقع أن الصراع الطائفي الذي ابتُليت به في السنوات الأخيرة بعض الدول العربية إنما تم تصديره إليها من دول إقليمية بعينها، فنشأ عنه اقتتال داخل مجتمعات طالما ظلت متعايشة ومتناغمة فيما بينها قبل ما عرف باسم «الربيع العربي» الذي هدم بيوت الناس وفكك الدول وبعثر مواردها ومزّق هويتها الوطنية.إن ما شهدته العديد من الدول أفرز ظروفاً قاسية وغير مواتية للحياة الإنسانية الكريمة في شروطها الدنيا، وهو ما ينتج ردة فعل حيال البلد من طرف أبنائه الذين يصبح كل همهم البحث عن منافذ للهروب سعياً إلى الظفر بحياة أفضل وأكثر أمناً وهدوءاً. ومع أن مشكلة المهاجرين ليست حديثة العهد، حيث شهدت السواحل الأوروبية موجات هاربين كثيرة قبل اندلاع «الربيع العربي»، فإن تفاقمها بهذا الشكل المأساوي مرتبط بالأحداث الدراماتيكية التي عرفتها المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، والتي سمحت للدول الأجنبية بطرح أجندات ربما تكون بعيدة كل البعد عن المصالح الحقيقية للإنسان العربي، ولذلك هاجرت بعض المجتمعات العربية هرباً من جحيم الموت والنزاعات والمواجهات الطائفية، ليصبح كثيرون طعما للأسماك الأوروبية وصيداً ثميناً للقراصنة وتجار الحروب. والمؤلم أن أغلب المهاجرين من الشباب المتعلمين وحملة الشهادات وأصحاب الخبرات. ولا يخفى دور تجار البشر ومقاولي الحروب في تلك الهجرات وسعيهم للتربّح على حساب المساكين الهاربين الذين تقطعت بهم السبل، ليصبحوا فريسة أنياب المافيات العالمية التي تتاجر بالبشر وتمتص دماءهم، قبل أن تتركهم للبحر كي يبتلعهم ولـ«القرش الأزرق» كي يلتهمهم! *كاتب سعودي