بعد «هدنة إجبارية» بدأت بسقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية منذ ثلاثة عقود لترستم بذلك نهاية الحرب الباردة، يبدو العالم اليوم على موعد جديد مع حرب باردة جديدة في ظل التغيرات التي تعصف بالعالم. ويأتي السباق المسعور بين المعسكر الغربي المتمثل في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من جهة، وبين روسيا الاتحادية والصين منفردتين ومجتمعتين من جهة ثانية، في سياق مغاير لما أعلن عنه خبير العلوم السياسية الأميركي الشهير «فرنسيس فوكوياما»، أوائل تسعينيات القرن الماضي، باعتباره الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية كشكل وحيد للحكم مستقبلاً، يتعذر على أي أيديولوجيا أخرى تحديه. وكان فوكوياما قد وصف الحال بأنه «نهاية التاريخ»، رغم أن الندية كانت خلال تلك الفترة حاضرة بين القوتين العظميين من خلال التحالفات العسكرية، والدعاية، وتطوير الأسلحة، والتقدم الصناعي، والإنفاق الكبير على الدفاع العسكري، والترسانات النووية، وحروب غير مباشرة باستخدام وسطاء، وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي.
العديد من المحللين السياسيين يرون أن بدايات الحرب الباردة الجديدة تعود إلى العام 2013 الذي شهد تطورات خطيرة في أزمة أوكرانيا. وفي هذا السياق، يحيلنا بعض المراقبون إلى أبريل 2018، حين أعلن أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، خلال اجتماع في مجلس الأمن قائلاً بصراحة: «عادت الحرب الباردة بسبب الرغبة في الانتقام.. يجب العثور على آليات جديدة لتجنب تصعيد المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة». ومنذ تلك الأيام، تتصاعد الأحداث بين فترة وأخرى وتتوالى الاتهامات بين طرفي المعادلة، الولايات المتحدة وروسيا، ربما كانت آخرها المشاكسات بين رئيسيهما، جو بايدن وفلاديمير بوتين، حين اتهم الأول الثاني بأنه «قاتل»، وبذلك حدد بايدن العدو الرئيسي لبلاده من جديد، وهو الخصم الموجود في العمق القاري لأوراسيا، وذلك بعد أن كان الرئيس السابق (دونالد ترامب) قد اتخذ من الصين عدواً رئيسياً له إذ رآها تخوض معركة شاملة لفرض نظام عالمي جديد بقيادتها. لكن الأمر لا يبدو في نظري بهذه البساطة، فكأني بالحرب الباردة الجديدة بثلاثة رؤوس وليس برأسين كالأولى، أميركا رأس وروسيا رأس والصين رأس.
لقد أعلن بايدن عن نيته تأسيس «حلف الديمقراطيات». وبعد بضعة أيام ردت بكين وموسكو ببيان مشترك ضد العقوبات و«التدخل الأميركي في شؤونهما». وكانت الخطوة التالية للصين توقيع اتفاق اقتصادي شامل ذي تداعيات عسكرية محتملة مع إيران. بل إن الصين تجهد –ولو بحذر شديد- لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دول حريصة على علاقاتها مع واشنطن، لكنها حريصة أيضاً على المكاسب الاقتصادية وراء العلاقة مع بكين. وفي هذا الوقت، دخلت أوروبا على خط الأزمة، ليس فقط لنصرة حليفها الرئيسي الولايات المتحدة، ولكن أيضاً لاعتبارات تاريخية تخصها نتيجة عقود من العداء لروسيا (وريثة الاتحاد السوفييتي) الذي كان في يوم ما متحكماً في نصف أوروبا (أوروبا الشرقية)، لاسيما بعد انضمام دول أوروبا الشرقية للاتحاد الأوروبي. ومن هنا فلا غرابة في المناكفات الدبلوماسية متمثلة في الطرد المتبادل للدبلوماسيين بين الجانبين، وآخرها بين روسيا وكل من جمهورية التشيك ودول البلطيق الثلاث (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا)، وهذا إضافةً إلى الصراع الساخن بين روسيا وأوكرانيا. ومعلوم أن تهديد حلف الناتو بدعم أوكرانيا إذا حدثت مواجهة مع الروس، قابلته روسيا بتهديد مباشر للحلف بدفع ثمن أي تحرك من هذا النوع. هذا، مع التذكير بأن عودة الحرب الباردة تعني العودة لاستخدام «الوسطاء» الذين عادة ما يدفعون الفاتورة الأكبر لصراعات الولايات المتحدة وروسيا اللتين لن تدخلا في مواجهة مباشرة تحت أي ظرف من الظروف.