في الأخبار الواردة هذا الأسبوع أن وزير الدفاع الأميركي «لويد أوستن» ألقى أول كلمة سياسية مهمة له خلال زيارة للقيادة الأميركية في المحيط الهادئ، والتي مقرها هاواي، وهذا خبر عادي جداً. لكن غير العادي هو ما قاله وزير أكبر ترسانة عسكرية في العالم في أول خطاب سياسي له حين قال: (..على الولايات المتحدة الاستعداد لصراع محتمل في المستقبل لا يشبه كثيراً «الحروب القديمة»، التي استهلكت وزارة الدفاع لفترة طويلة. «الطريقة التي سنقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة تماماً عن الطريقة التي قاتلنا بها في الحروب السابقة»).
وزير دفاع القوة الأولى في العالم يبشر هذا العالم بصراع قادم ومحتمل، لكن الجديد هو ما يتحدث به الوزير الأميركي عن نوعية حروب المستقبل (فعلياً المستقبل هو اليوم والآن).
الرجل الذي يسيطر «تنفيذياً» على أقوى ماكينة عسكرية في الكوكب يتحدث عن تغير جوهري في تلك الماكينة، وهو ما يتطلب تغيراً في الاستراتيجيات أيضاً.
فعليا، فإن ثورة تكنولوجيا المعلومات التي أنتجت حجم دفق معلوماتي لا يمكن قياسه بالعقل العادي، بالإضافة إلى تطور تكنولوجيا متناهية الصغر في معظم الابتكارات كلها وبتداعياتها المتسارعة والمستمرة خلقت تغييراً في كل العالم، وعلى كل مستويات التطور البشري، مما يجعل الماكينة العسكرية نفسها جزءاً من التغيير الجذري، وهو ما ينعكس على شكل النزاعات والحروب التي تحسم تلك النزاعات.
مثلاً، كانت الدبابة العسكرية بضخامتها وكفاءتها القتالية ميدان تنافس بين القوى الضخمة، وكذلك حجم القنابل التي تحدث دماراً شاملاً كانت مجال سباقات التسلح الدولي، بل وصل سباق التسلح إلى التفكير بصواريخ موجهة من الفضاء نحو الأرض.
لكننا اليوم نقف أمام آلات قتل متناهية الصغر قادرة على الطيران، ومن دون احتمالات دفع كلف بشرية فيها، وتحمل أسلحة فتاكة من دون أوزان ثقيلة. 
تلك تغيرات تجعل العقلية العسكرية اليوم تعيد التفكير بمدى جودة فرق المدفعية الثقيلة اليوم، وما هي كفاءة دبابة عملاقة أو مدفع عملاق وضخم أمام حفنة طائرات درون صغيرة ورشيقة لا يلتقطها رادار وتفتك بالعدو بسرعة قياسية، وتعود أو لا تعود، فسقوطها ليس خسارة فادحة، وستصبح الحروب لا مواجهات مباشرة فيها ولا ساحات قتال بمساحات شاسعة، لقد انتهت مفاهيم ميدان «واترلو» أو العلمين التقليدية واستراتيجيات تلك المعارك كنماذج تدريس في الكليات العسكرية، وانتهى معها حسابات الإحداثيات الدقيقة للمدفعية ونظريات الشطرنج النابليونية لتخطيط الحروب.
من هنا تأتي ربما تصريحات «أوستن»، التي عبر عنها بالنيابة عن كل العقلية العسكرية في العالم، ولكن الأخطر في كلامه، أن الدول لا تزال حتى اليوم تحمل نيات المواجهات والقتال في ظل كل هذا التطور البشري، الذي يفترض أن يكون جامعاً للإرادات الإنسانية بهدف تحسين أنماط العيش لا تطوير نماذج الموت.
نعم، هناك تغير استراتيجي عالمي في عقيدة القتال والمواجهات وإدارة النزاعات بالقوة، وهو ما سينعكس على عقيدة الجيوش، ونتأمل أن تكون تلك رادعاً قوياً عن مواجهات غير محسوبة، وتكون على الأقل ضماناً لطريق جديد في التنمية والتعاون ونهاية الأزمات، خصوصاً في شرق المتوسط الذي لا يزال يبحث عن سلامه المفقود.


* كاتب أردني مقيم في بلجيكا