في معظم الأحيان، يغيب عن بال المحللين وواضعي السياسات الخارجية والدولية النظر إلى منطقة الشرق الأوسط من البعد الحضاري والإنساني، وما تمتعت به المنطقة من ثقافات قديمة متجذرة ومتنوعة كانت الأساس في قيام القوى العظمى والإمبراطوريات والنهضة والتطور الإنساني في الماضي، ولا يفطن معظمهم أن هذه الحضارات العريقة والأديان السماوية كانت العامل الأول الذي جعل من الشرق الأوسط، وخاصة الجزيرة العربية والهلال الخصيب منطقة للجذب، والتجاذب، والتنوع الفكري والإنساني.

لا شك أن الأحداث التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط عبر العصور وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية قد تبدلت كلياً منذ ظهور النفط والغاز في الخليج العربي والعراق، ما جعل واضعي السياسات العالمية يصممون المخططات تلو الأخرى لمحاولة كسب ما يمكنهم اكتسابه من علاقات وتحالفات وشراكات وصداقات، أصبحت في ما بعد هي المؤشر الأول لأهمية المنطقة بعيداً عن تاريخها وحضاراتها، والذي ساهم أيضاً في إنشاء صراعات ونزاعات داخل منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها ظهور الجماعات الإرهابية، التي هددت النسيج الاجتماعي وحاولت هدم خطط التنمية والتطور التي بدأت في بعض دول الشرق الأوسط، بل وكانت تشكل في ذات الوقت تهديداً على الأمن العالمي.
منذ عام 1948 وحتى 2020 والعالم يبذل جهوداً كثيرة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وقد شهدنا عشرات المحاولات المضنية عبر العقود من الجانب الأميركي والجانب الأوروبي وغيرهم لإيجاد نقطة التقاء واحدة تُنهي هذا الصراع المزمن الذي أسس لنشوء الفكر المتطرف ووجد فيها الذريعة الأولى لانتشاره وتمدده، ولكنها جميعاً باءت بالفشل الذريع لأسباب وظروف عدة لا يتسع هذا المقال لشرحها، فبقيت التهديدات المختلفة (الداخلية والخارجية) تعبث بأمن المنطقة وتولدت منذ عام 1979 صراعات جديدة طائفية وعرقية حاولت النخر في عصب مجتمعات الشرق الأوسط، وباتت تشكل تهديداً ليس عسكرياً فحسب، بل تهديداً شاملاً للقطاعات المختلفة، يقول باري بوزان «إن المخاوف بشأن الأمن العسكري تخفي تقليدياً القضايا الأساسية للتهديدات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والبيئية».
لا بد من إعادة صناعة وصياغة متمهلة عميقة تتبناها دول الشرق الأوسط تعيد تحديد جميع السياسات الدولية تجاه المنطقة، ولا تتركها بيد بعض السياسيين الذين قد يصعدون إلى رأس السلطة دون أدنى معرفة بتاريخ وقيمة المنطقة من الناحية الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية وأن يوضع ذلك في «بروتوكول» يسمى بروتوكول الشرق الأوسط يُلخص القيمة الحقيقية للمنطقة في الماضي والحاضر والمستقبل، ويبين الأهمية القصوى لأمنها الكلي، ويبين أهم وأخطر التهديدات التي تلاحق أمنها، حيث يقول «بيتينا كوخ» و«يانيس أ. ستيفاتشتيس» في كتابهما «الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط»: إن «أمن الشرق الأوسط بالمعنى الأوسع على أنه وجود تهديدات تشكل تهديداً وجودياً للدول والحكومات والمجتمعات، المجموعات الفردية، والمنطقة ككل».
الرسالة التي نريد أن نضعها بين يدي صناع القرار في العالم، سواء في أوروبا أو أميركا أو الصين وروسيا وغيرها أن منطقة الشرق الأوسط، تشهد حالياً تغييرات جذرية حقيقية تمس الهوية الثقافية الجامعة والمشتركة للمجتمعات التي تعيش في المنطقة، ومع أهمية الموارد الكبرى كالطاقة وغيرها، ومع ذلك فإن على واضعو السياسات العالمية التنبيه لما قد بدأ إعداداه فعلا هنا، فمثلاً الرغبة الأوروبية الجامحة لتحقيق الاتفاق النووي مع إيران إلى جانب الطرف الأميركي، قد تبدو نجاحاً من وجهة نظر السياسيين الذين يحاولون إبرامها، ولكنها في المنظومة الكلية، لما سبق، قد تعد أداة تخريبية ستساهم في إيجاد المزيد من الصراع في المنطقة وزيادة التهديدات، إذا لم يتم الاستناد إلى رأي الدول ذات العلاقة والمتأثرة فعلياً من دول الشرق الأوسط.
الإمارات بدأت منذ سنوات طويلة وضع رؤية شاملة يحتاجها التصميم الجديد لهوية الشرق الأوسط الذي تسود فيه قيم التآخي والمحبة والسلام، وتكللت تلك الدراسات بنتائج مذهلة أدت إلى توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، فاجتثت مصدراً أساسياً من مصادر وأسباب النزاع والخلاف لتهيئة الشرق الأوسط للمزيد من الاتفاقيات السلمية، التي تصحح البوصلة، وتوضح معالم الطريق، وترسم صورة نقية لهذه المنطقة تقضي على التهديدات بكافة أشكالها، وتمنح الشعوب والأجيال المقبلة الفرصة والأمل في السلام والأمن والاستقرار.
الخطوات التي نحتاجها تكمن في التآلف نحو رؤية واحدة تحقق المصالح المشتركة، وتساهم في إتمام عملية السلام بانضمام باقي دول المنطقة ليس في محور أو تحالف بقدر أن تكون كيانا جيوسياسيا قادراً على مواجهة من لم يعلم بعد بأهمية هذه المنطقة من العالم.

*لواء ركن طيار متقاعد.