أعتقد أن قمة العلا فتحت بوابة واسعة لاستعادة روح التعاون والتسامح أمام المنطقة والإقليم كله، وحفزت الجميع على العمل المشترك وعودته إلى مساره الطبيعي، مع تعزيز أواصر الود والتآخي بين شعوب المنطقة التي تربط بينها علاقات عريقة. فثمة قربى دم وثقافة ومصالح، ولا يغيب عن القادة والمسؤولين في كل دول العالم أن علاقات الشعوب أمتن وأقوى من أن تفكك عراها عواصف الخلافات التي تحدث عادة بين الدول. ولئن اتخذ كل شعب موقف دولته بدوافع وطنية أحياناً، أو بدوافع سياسية، فإنه لا يتخلى عن ثوابت العلاقات مع الشعوب الأخرى، مما يجعل عواصف الخلافات تمر سريعاً، وسرعان ما يعود الصفاء إلى مجراه الإنساني والتاريخي العريق.
ونحن السوريين من أكثر الشعوب التي تحرص على صفاء العلاقات الأخوية العربية والإقليمية، لأن شعبنا (في محنته الراهنة) بات مشرداً مشتتاً في كل دول المنطقة، ورغم حرص كل الدول في العالم المتصارع على ألا تزجه في صراعاتها ومشكلاتها، إلا أنه يشعر بالحرج الشديد كما يشعر أي ضيف على أسرة يختلف فيها الزوجان أو يتصارع فيها الجيران.
انفرط عقد هيئة التفاوض السورية في سياق اضطراب الرؤى، وازداد شتات المعارضة التي كانت تجد متسعاً رحباً في حراكها بين الدول الشقيقة الصديقة، فلما اضطربت الساحة كبر الحرج، ولكن قمة العلا وعودة الوفاق بين الأخوة والأصدقاء نشر طائفاً من الطمأنينة في نفوس شعوب المنطقة كلها، وها نحن نتابع بتفاؤل حراك عودة كريمة للعلاقات الطبيعية بين دول المنطقة، ويشتد حرصنا على أن نجد تنامياً لدور مصر الشقيقة التي كانت على مر العصور قلب أمتنا، كما يشتد ساعدنا بمواقف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وبقية دول الخليج العربي ودول الشمال الأفريقي العربي، متطلعين إلى دور عربي عادل ومتين لإنقاذ سوريا، عبر الرؤية الدولية الأممية التي بات الجميع يتمسكون بها، وهي خريطة طريق واضحة المعالم، وموضع توافق دولي تؤيده روسيا ذاتها (كما تقول) وقد بات مفتاح الحل بيدها، لكنها تمضي إليه عبر طرق وعرة تتعثر فيها، كما فعلت حين مضت إلى تعاريج ومنعطفات سوتشي وآستانة وهي تعرف أن الطريق الدولي الذي يوصل إلى الهدف هو طريق جنيف، وأتوقع أنها ستدرك قريباً أنه (لابد مما ليس منه بد) وأن تنفيذ القرار الدولي 2254 يقتضي الحرص على تراتبيته، وأي خلل في هذه التراتبية يفقد القرار سيرورته.
وسيدرك كل المعنيين صحة مقولة أبدية هي أن (بقاء الحال من المحال) ولن تتمكن الدول المضيفة لملايين السوريين اللاجئين من الاستمرار لسنوات قادمة في تحمل هذا العبء المتصاعد، فلابد من عودة ملايين السوريين إلى بلدانهم وبخاصة أولئك اللاجئين في ظروف قاسية في لبنان والأردن وتركيا، فضلاً عن ملايين النازحين إلى الشمال السوري ممن لا يجدون خياماً تؤويهم، ولا يمكن أن تتحقق هذه العودة دون الوصول إلى حالة من الأمان والاستقرار الشامل في سوريا، ولن يحدث الأمان ما لم تتحقق شروط الالتفاف الشعبي حول الدولة المدنية الديمقراطية، وعندها سنجد الجميع يعملون بإخلاص للحفاظ على مؤسسات الدولة وعلى ما تبقى من ثروات الشعب، وستنطلق قوافل إعادة الإعمار، وسينعكس ذلك أمناً وهدوءاً واستقراراً على كل دول المنطقة.