خضت تجربتين في «قبول الآخر» تعلمت منهما أنه لا يوجد مستحيل في مسعى التقريب بين الناس وتعايشهم داخل البلد الواحد، إن خلصت النوايا، وانعقد العزم، وتواصل الجهد، وقام الرجال المؤمنون للإصلاح بين الناس بدورهم، وأدى القانون والسياسة دورهما في التساوي بين الناس في الحقوق والواجبات.
فقد ذهبت بدعوة من «معهد التنمية السياسية» في المنامة لأحاضر وأدرب مجموعة من شباب ينتمون إلى المذهبين السني والشيعي على «قبول الآخر». وعلى ثقل المهمة، لاسيما في تلك الآونة، فإني لم أجفل منها، ولم أر أنها مستحيلة أبداً، ولم أفقد إيماني يوماً بأن كل ما يقال فيها ويفعل، لابد أن يؤتي أكله، ولو بعد حين.
كانت خلفي تجربة عميقة في هذا الاتجاه، خضتها ضمن برنامج «حوار الثقافات» الذي انتظم سنوات تحت راية «الهيئة القبطية الإنجيلية» في مصر، حيث تواصلت اللقاءات بين وعاظ من الأوقاف والأزهر مع قساوسة من مختلف المذاهب المسيحية، الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية، وكان تواصلها أمام عيني منذ أن كانت برعماً صغيراً هشاً يمكن لقدم أن تدهسه، وتنهي وجوده، حتى صارت شجرة باسقة ظليلة مثمرة.
في البداية لم يطق كل منهما الآخر، فالمشايخ اعتقدوا أنهم وقعوا في فخ تبشير، والقساوسة ظنوا أنه مكان للأسلمة. جاءت الجلسة الأولى، فتجاورت أجساد الشيوخ على اليمين، والقساوسة على اليسار، وكل منهم ينظر إلى الآخر في ريبة. فلما جاء وقت الغداء في مطعم الفندق، الذي يقام فيه اللقاء، حافظوا جميعاً على هذا الافتراق.
توالت الجلسات، وكرت الأيام سريعاً، صانعة شهوراً وسنين، فزال الشك، واتسعت جسور الثقة، فتجاوروا في الدرس والتدريب والطعام، وصار بينهم حديث وألفة، وتبادلوا أرقام الهواتف، وتواعدوا على اللقاء في أماكن أخرى، وعاد كل منهم إلى ذويه يحكي التجربة، ويشجع غيره على خوضها، أو على الأقل يزيل من رأسه بعض الأوهام التي عششت فيه عبر زمن طويل من الجفاء، الذي تقطعه ابتسامات خافتة عابرة في الوجه، وغمز ولمز في الظهر.
استحضرت هذه التجربة وأنا أدخل قاعة الدرس في المنامة، مسلحاً بها، وحصيلة قراءات وضعت بعضها في المحاضرة التي انتظمت عناصرها وفق برنامج Power Point وأخرى مستقرة في الذاكرة، يمكن استدعاؤها إذا دعت الضرورة. نظرت في وجوه الجالسين مليّاً فلم أجد ما يمكن أن أفرق به بين سُني وشيعي، وحين دار النقاش، بعد أن أنهيت محاضرتي، طرح كل طرف بعض هواجسه، لكن في تحفظ، ربما مراعاة لمشاعر الآخر، أو تجنباً لأي مشكلات، لكني طلبت منهم الحديث في صراحة، ففعلوا، وأنصت إليهم، فإذا بكثير من المخاوف يمكن تبديدها، وكثير من الشكوك يمكن محوها، وحواجز عالية يمكن أن تزول، حين تنفتح العقول على العقول، ويكون هناك ما يجمع القلوب، وقد يتمثل في محبة التراب الذي ولد عليه هؤلاء، والشوارع التي قطعوها ذهاباً وإياباً، أو حتى ألوان من الحلوى تفردت بها البحرين عن سائر دول الخليج العربية، وربما علاقات الجيرة ومقاعد الدراسة والصداقة والمحبة.
قابلت في هذه الدورة القصيرة أربع مجموعات، بواقع اثنتين كل يوم، في الصباح والمساء، ولا أتوهم، بالطبع، أن كل سوء التفاهم قد زال، لمجرد محاضرة ونقاش وتدريب عملي على التعايش، إنما التقط بعضهم مفتاح تفكير في الأمر بعيداً عن الغرض والهوى، والثقافة السماعية، والمصالح الضيقة، وهي مسألة سبق أن جربتها في حوارات عديدة أجريتها بشكل حر مع بعض المتطرفين دينياً أو أيديولوجياً، حيث يرفض من تحاوره كل ما تقول أمامك، وفي لحظة النقاش، لأنه يعتبر نفسه في مباراة لا بد أن يربحها، لكنه إن خلا إلى نفسه، يعيد التفكير في ما سمع مجرداً من هذا الشعور، وهذه الحسابات العابرة، فيتزحزح من موقفه الجامد، ويبدأ رحلة الانفتاح على الآخر، توطئة لقبوله.