الشيء الأهم الذي يعنيني طوال سفري هو: كيف يتعايش الناس رغم اختلاف القيم والأفهام ودرجات الوعي والمصالح والغايات الفردية؟ وكيف يتجاور القديم مع الجديد في المدن، بل ويتعانقان؟ ليثبتا أن ما مضى لم يذهب كله، وأن بعضه مفيد في حياتنا المعاصرة، لأنه ساكن في الجذور، ولديه ما يمد به النبت مهما ارتفع في وجه الريح، وتشعبت فروعه، وثقلت ثماره. 
قد يكون هذا هو المعنى العميق في السفر، بعيداً عن التنزه وتفريج الهم والتقاط الرزق، فسوء الفهم الذي ظل قائماً لقرون طويلة بين البشر، كان مرده تلك الحواجز العريضة التي حالت دون اتصال أغلبهم ببعضهم البعض، في أزمنة زادت فيها المسافات، واتسعت المفازات، وشمخت الجبال بأنوفها في وجه الناس، وهاجت البحار والمحيطات، فهابوها.
اليوم ضاقت الغربة بيننا، بعد أن صارت الطائرات والسفن أكثر سرعة، وتواصل الكل في عالم افتراضي على شبكة الإنترنت، يقترب كل يوم من الواقع مع رفع ملايين الصور واللقطات والمشاهد المصورة ومليارات الكلمات التي يمكن ترجمتها إلكترونياً في سهولة. هذه الثورة العارمة في المواصلات والاتصالات جعلت سؤال التفاهم والتعايش هو الأكثر طرحاً، في عالم طالما ظهر فيه حالمون بتوقف شلالات الدم، ويصل فيه الإنفاق على السلاح إلى درجة الصفر.
ولأني امتلأت في زمن مبكر بأفكار الإسلام عن الرحمة والتعارف، وتصورات غاندي عن اللاعنف، ونداء كانط بالسلام الدائم، والتقارب الكبير، بل التطابق أحياناً، بين الموروث الشعبي للأمم من أساطير وأمثلة وحكم، فقد كنت معنياً دوماً في ذهابي إلى البلاد بالبحث عما يجمع بين الناس، في الأفكار والطقوس والملامح والتحايل على العيش، والكفاح في سبيل تحسين شروط الحياة. 
وزكى هذا لديَّ إيماني بأن الاختلاف سُنّة حياتية، بل كونية، وأنه حتى المعارضة تكون في جوهرها امتثالاً لمنطق الكون وطبيعة الحياة وقوانينها، فالانفراد المطلق، والمشيئة التي لا راد لها ولا مراجعة، حالة إلهية، أما البشر فيجب أن يكونوا في اختلاف وتنوع وتعدد، حتى يستقيم العيش. ولهذا رأيت في ترحالي أن الاختلاف ضرورة، وهو ابن التنوع البشري الخلاق، واعتبرت العالم بأسره له ثقافة واحدة، يكمل بعضها بعضاً، وكل واحدة فيها هي رؤى ووجهات فرعية، تتأهب دوماً للتدفق سريعاً نحو المجري العميق للثقافة الأصلية.
وخلال سفري لم يقتصر نظري إلى وجوه الناس، المختلفة بين أسمر وأبيض وأسود وأحمر وأصفر، بل نظرت أيضاً إلى العمران، فهو أيضاً ينطق بالتعايش، بين بنايات قديمة مرت على تشييدها قرون، وأخرى فرغ البناءون منها للتو، وثالثة تقع في منتصف أزمنة المدن. وقد تتوزع من الشوارع الواسعة حارات ضيقة، وقد يقف في بعض المدن والبلدات صف من البنايات الشاهقة على الجانبين في شارع عريض، بينما تنيخ خلفهما صفوف أو أشكال متعرجة أو مبعثرة من البنايات الخفيضة، التي يقطنها فقراء.
لهذا لا يجب على أي زائر لمدينة، لو أراد معرفة الكثير عنها، أن يقتصر بقاؤه فيها على أحيائها الفخيمة، أو فنادقها الفارهة، فيقيم أياماً، ويخرج منها إلى المطار، ثم يسجل كذباً في مدونته أو تاريخ سفره أنه قد زارها. فالزيارة الحقيقية، تبدأ من قلب المدينة، حيث البقعة الأولى التي بدأت، وتفرع منها كل شيء، فتوالت الأزمنة، وتراكمت الجهود، وتعددت أذواق المعماريين، فتنوعت أشكال البنايات، ومساحات الشوارع، طولاً وعرضاً.
هكذا يكون التعايش والتفاهم الذي نبحث عنه، ليس فقط في التصورات والاعتقادات والأفكار ووجوه الناس في قارات الأرض، إنما أيضاً ذلك الذي يحل في العمران، فهو ليس جمادات بلا معنى، إنما تعبير عن ثقافة وأذواق وتاريخ طويل من الكفاح والسعي إلى التجدد والتغيير.