بعد تردد استمر بضعة أسابيع، حسم الرئيس الأميركي جو بايدن موقف إدارته بشأن الاتفاق المُبرم مع حركة «طالبان» في فبراير 2020، وقرر البدء في سحبه قوات الولايات المتحدة والحلف الأطلسي في أول مايو، على أن تنتهي عملية انسحابها في 11 سبتمبر الذكرى العشرين للهجمات الإرهابية على مدينتي نيويورك وواشنطن. لم يجد بايدن وفريقه خياراً ثالثاً بخلاف البقاء في أفغانستان لوقت أطول، والانسحاب منها في وقت أقصر مما كان متوقعاً عندما بدا عقب توليه الرئاسة أنه قد يتجه إلى التمهل في اتخاذ قرار.
كانت مؤسسات السياسة الخارجية والأمن القومي بالولايات المتحدة في حيرة من أمرها خلال السنوات الأخيرة بشأن ما ينبغي عمله في أفغانستان، إلى أن اختار الرئيس السابق دونالد ترامب سحب قوات الولايات المتحدة وحلفائها، في إطار اتفاق سلام مع حركة «طالبان». غير أن حيرة المؤسسات الأميركية لم تنته بتوقيع ذلك الاتفاق، إذ بقي بعضها قلقاً من ترك حكومة كابول الشرعية في وضع أضعف من حركة «طالبان» المناوئة لها، ومن ثم المخاطرة بخسارة كل ما تم تحقيقه على مدى 20 عاماً من القتال، وتقويض التقدم الذي حدث باتجاه بناء دولة وطنية تسعى إلى تحديث مجتمع تسوده أشد القيم تقليديةً ومحافَظة. ولهذه الحيرة مبرّرها في وضع بالغ الصعوبة والتعقيد، على نحو يجعل كلاً من الخيارين الأساسيين المُتاحين أمام واشنطن مُراً، بخلاف أزمات أخرى كان الخيار الذي اُختير في معالجتها أقل مرارةً من غيره.
البقاء في أفغانستان ليس حلاً لأزمة شديدة التعقيد، وكُلفته الاقتصادية ضخمة، إذ يتطلب تمويلُ القوات الأميركية والحليفة لها مئات الملايين من الدولارات سنوياً، بدون عائد إضافي يُحقّقه حضورها بعد ما أمكن إنجازه، خلال عقدين كاملين، سواء على صعيد وضع أساس تقوم عليه مؤسسات دولة وطنية، أو على صعيد بناء جيش وقوات أمنية.
كما أن سحب القوات الأميركية والحليفة يمكن أن يُغيّر التوازن العسكري الهش، في حالة عدم تمكن القوات الأفغانية الرسمية من حماية المكتسبات التي تحققت، ومواجهة حركة «طالبان» إذا نقضت اتفاق السلام المُبرم معها، وسعت إلى السيطرة على البلاد، واستعادة الدولة الدينية التي أقامتها في مرحلة هيمنتها على أفغانستان بين عامي 1996 و2001، واحتضانها قيادة تنظيم «القاعدة».
غير أنه رغم مخاطر خيار الانسحاب الآن، فقد خلصت إدارة بايدن بعد المراجعة التي أجرتها إلى ضرورته دون أن يعني هذا أفضليته، الأمر الذي يؤكد صواب رؤية الرئيس السابق دونالد ترامب وإدارته، على أساس أن الوقت حان لإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها. فليس بإمكان أية دولة مهما تكون قدراتها أن تخوض ما يُشبه حرباً أبدية بلا نهاية.
وعندما تتفق إدارتان مختلفتان في كثير من توجهاتهما على خيار ما، فهذا مؤشر إلى أن صعوبة الخيار الثاني أكبر، وليس إلى أن ما اتفقتا بشأنه أفضل أو أقل سوءاً. وفي مثل هذه الحالة، يكون الرهان على إمكان العمل من أجل تقليل مخاطر الخيار الذي اُختير. وهذا ما ستسعى إليه إدارة بايدن عبر مواصلة الشراكة الاستراتيجية مع أفغانستان، وتقديم المساعدات التي تُمكِّن حكومة كابول من الصمود، بحيث لا تجد حركة «طالبان» بديلاً من الدخول في مفاوضات معها للاتفاق على صيغة لحل سياسي. وهذا رهان على أن في إمكان المساعدات الأميركية اللوجستية والاستخباراتية والتسليحية والتدريبية والاقتصادية إبقاء حكومة كابول في وضع يُمكّنها من مواجهة أية محاولة من جانب «طالبان» للسيطرة على البلاد بالقوة، ويتيح لها المحافظة على التوازن النسبي الراهن.
وهذا رهان سيُختبر في الواقع، لكن نتيجته لن تظهر بشكل فوري، وقد تبدأ مؤشراتها في الظهور خلال العام القادم. ولهذا، فالأرجح أن يشهد العام الجاري استمرار الصراع المسلح بالتزامن مع سحب القوات الأميركية والحليفة، وهو ما تتوقعه إدارة بايدن وفق ما يُستنتج من إعلانها إرسال تعزيزات لوجستية لضمان «انسحاب آمن». ويعني هذا أن أزمة أفغانستان ستبقى ضمن أكثر الحروب دموية عام 2021، وفق توقع مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في تقريره الصادر في 20 يناير الماضي، تحت عنوان: «الصراعات الكبرى 2021: العنف المتزايد في أفغانستان».

إنها العلاقة المعقدة بين السياسة والحرب في أحد أكثر تجلياتها وضوحاً.