تَعِد خطط الرئيس جو بايدن الاقتصادية بتقسيم الاقتصاد الأميركي إلى قطاعات تزيد من الإنتاجية وقطاعات توفّر التشغيل الجماعي الكبير. وهذا يمثّل رداً معقولاً على الضغوط التي تواجهها الولايات المتحدة نتيجة التحولات التي تشهدها التكنولوجيا والاقتصاد العالمي. ولكنه يمكن أن يخلق انقسامات اجتماعية بين الأشخاص الذين يعملون في هذين النوعين من القطاعات.
وفي تدوينة كتبتُها مؤخراً، حاولتُ تقديم رؤية عامة بخصوص إلى أين تأخذنا خطط بايدن الاقتصادية. وأحد المفاهيم التي كنت أعود إليها كثيراً هو فكرة «الاقتصاد ذي المسارين». وجاءتني هذه الفكرة من اليابان، حيث انتهى الأمر بقطاعات تصديرية ذات مستوى عالمي –مثل شركات «تويوتا موترز كورب» و«باناسونيك كوربو» و«نينتاندو كو»– إلى دعم قطاعات أخرى غير منتجة وغير مواكبة للتحولات التي حولها، لكنها تمكّنت من تشغيل عدد ضخم من الأشخاص. اليابان توصلت إلى هذا الترتيب بالصدمة نوعاً ما، ولكن فكرتي هي أن بايدن يحاول خلق شيء شبيه بهذه الوصفة اليابانية، أي توفير التمويل للبحوث وأشكال أخرى من الدعم لقطاعات المعرفة المبتكرة مثل البرامج الحاسوبية والعلوم البيولوجية والصناعة المتقدمة.. لكن أيضاً دعم «اقتصاد رعاية» يركز على الداخل. 
هذا النوع من التقسيم معقول ومنطقي في عالم حيث القطاعات الاقتصادية التي ترفع الإنتاجية أكثر من غيرها ليست هي القطاعات التي تقدّم وعد التشغيل الجماعي الكبير للناس. فخلال الثورة الصناعية، كانت الصناعة في المقدمة من حيث الابتكار ونمو الإنتاجية، لكنها استوعبت كذلك أعداداً ضخمة من العمالة. واستطاعت فعل ذلك لأن الطلب على السلع المصنّعة كان يزداد بسرعة كبيرة. 
أما اليوم، فإن الولايات المتحدة تواجه مشهداً مختلفاً جداً. ذلك أن القطاعات الأكثر تجديداً وابتكاراً –البرامج الحاسوبية، التكنولوجيا الحيوية، إلخ– لا تشغّل مثل تلك الأعداد الكبيرة من الناس. وبالمقابل، تشتغل نسبة متزايدة من اليد العاملة الأميركية في خدمات محلية مثل الرعاية الصحية والتعليم والبيع بالتجزئة وخدمة الإطعام. وهذه القطاعات تضررت بشكل خاص جراء الوباء، لكن الاتجاه العام كان نحو قيام مزيد من القوة العاملة بهذه الأشياء.
وسبب ذلك ليس واضحاً تماماً. فالبعض يرى أنه يعود إلى الأتمتة؛ فالتكنولوجيات الجديدة تسهّل استبدال البشر بالآلات بدلاً من تكميل العمالة البشرية فقط. وهناك سبب آخر مرجح هو العولمة؛ ففي وقت أصبحت فيه آسيا المركز العالمي للصناعة التي تتطلب عمالة كثيفة، لم تستطع الولايات المتحدة المنافسة بخصوص الكلفة في أي قطاع يعتمد على أعمال التجميع الجماعية منخفضة الأجر. ولأنها لم تعد قادرة على أن تكون «مصْنع العالم»، أُرغمت الولايات المتحدة على أن تصبح مركز بحوث العالم؛ تتنافس في قطاعات التكنولوجيا العالية التي تستفيد من امتيازات أميركا في البحث والتطوير وريادة الأعمال المدعومة برؤوس الأموال المخاطرة.
غير أن النتيجة هي أن قطاعات المعرفة التي يريد بايدن دعمها بتمويل فدرالي كبير للأبحاث، لن توفّر تشغيلاً جماعياً كبيراً للناس. ذلك أننا لن نصبح جميعنا مبرمجي كمبيوتر، مثلما كان يحلم بذلك كثير من الناس في التسعينيات. كما أننا لن نصبح جميعنا علماء مختبرات أو مديري مختبرات أشباه الموصلات عالية التقنية. ومن الواضح بشكل متزايد أن معظمنا سيوظّف في رعاية بعضنا البعض؛ نعدّ الطعام لبعضنا البعض، ونعتني بالأطفال، ونوفّر الترفيه، ونرعى بعضنا البعض في شيخوختنا.. إلخ. الأمر أوسع من ذلك بالطبع، فتركيب أجهزة إنذار الحريق أو إسداء النصائح المالية للأشخاص.. يندرج ضمن الإطار نفسه في نهاية المطاف. ومن خلال زيادة الطلب على وظائف الرعاية، يأمل بايدن مواكبةَ هذا التحول.
والحق أنه في البيئة الاقتصادية العالمية الحالية، ربما يكون ذلك الطريق الذكي. غير أنه يمكن أن يخلق انقساماً اجتماعياً بين الأشخاص الذين يعملون في قطاعات المعرفة والأشخاص الذين يعملون في قطاعات الخدمات المحلية. وهذا الانقسام واضح في تفاوت الأجور التي يتقاضاها الأشخاص العاملون في هذه القطاعات.
غير أن هذه الهوة الاقتصادية تؤدي بشكل حتمي إلى هوة اجتماعية، حيث لا يستطيع العاملون في قطاع الخدمات المحلية السكن في أحياء العاملين في قطاعات المعرفة أو اقتناء الأشياء الكمالية التي يقتنونها. وتلك الهوة الاجتماعية تؤدي إلى انقسامات سياسية بخصوص أشياء مثل التعليم العالي وسياسة التوظيف في شركات التكنولوجيا، والتي يُنظر إليها على أنها البوابة إلى العالم الذهبي المتميز لطبقة العاملين في قطاع المعرفة. وعندما تقسّم الاقتصاد إلى مسارين، فإن الجميع بالطبع سيرغب في القفز إلى المسار الذي يدفع أجوراً أحسن وأعلى، والحال أن المسار لا يتسع للجميع. 
وخلاصة القول هي أنه سيتعين على الولايات المتحدة إيجاد طريق وسط بين أهداف التنافسية الدولية والمساواة الاجتماعية. ولكن إيجاد ذاك الطريق الوسطي يظل تحدياً يتعين على كل بلد التعاطي معه. ولا شك أن الاقتصاد ذا المسارين ليس حلا مثالياً، لكنه ربما الخيار الأفضل المتاح للولايات المتحدة. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»