الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله لم يذهب بعيداً عن وجداننا فهو حي في كينونتنا، وحاضر في مفاصل حركتنا اليومية، لأنه كان حاضراً مع الناس بصفة يومية من الصباح إلى المساء وفي رمضان حتى وقت السحور.
عاش للناس وبالناس ومع الناس، يسمع نبض قلوبهم وهمس ألسنتهم، يلتفت إلى دفء مشاعرهم. هل سمعت عن إنسان صمته حكمة، هكذا هو حمدان، وإذا تحدث انتظر الحضور منه استقبال الحكمة.
كان زايد وراشد ومكتوم رحمهم الله، لا يفارقون افتتاحية مجلسه، وذاك من خلال قصص الطفولة، حتى لحظة ولادة الدولة التي كان غرسها وثمارها اليانعة وعقلها المليء بالرشد.
في إحدى الأمسيات، وبعد تجاذب أطراف الحديث عن جوانب من حياة الشيخ زايد رحمه الله، وبحضور أحد أعيان البلاد ممن كانوا يجالسون زايد، استأذن الشيخ حمدان في مداخلة طريفة عن مسيرة بوخليفة.
قال: كنا ذات مرة في حضرة زايد، وكان صامتا طوال الوقت على غير العادة، وفجأة دخل المجلس رجلا مسرعا نحوه وبصورة ملحوظة لم تخف عنا، بعد إلقاء التحية وبلا مقدمات قال: طال عمرك عطني أرض، فأجابه زايد: «الله يعطيك أرض مب زايد». فخرج من المجلس غاضبا، وهو يردد: «من بطّلْنا عيونا زايد هو اللي يعطي أراضي..».
فضحك زايد بعد أن خرج عن صمته فقال له: رِد. فرجع إليه فمنحه الأرض، والمجلس كله يضحك من تصرف ذاك الرجل الذي نال مراده، وقد امتلأ قلب زايد فرحاً وسروراً. مجلس معطر بذكر الآباء المؤسسين لصرح الدولة المتين، لا تسمع فيه غير ما يقوي السنع لدى الإنسان الذي يريد أن يكون إضافة إلى هذه الحياة وليس زائداً عنها، وإن غادر جسده، فروحه فاعلة لما هو آت.
حدثني شاب حديث التخرج، يبحث عن سبيل ييسر له سبل الاستقرار، وبناء بيت الزوجية، تم توجيهه إلى مجلس الشيخ حمدان. وكانت تجربته الأولى في هذا الطريق، والشباب حينها كانوا يهابون الدخول إلى مكان لا خبرة لهم فيه وهذا شعور طبيعي خشية الوقوع في تصرفات غير محسوبة.
يذكر هذا الشاب، بأنه عندما دخل المجلس جلس صامتا فقط يلاحظ الناس كيف يتصرفون مع الشيخ حتى يفعل مثلهم. يكمل الشاب مشواره، ويذكر بأنه لم يجرؤ على التحرك من مكانه بسبب حاجز الهيبة، فلمحه الشيخ حمدان فنادى عليه، فقام إليه مسلِّما ثم وقف أمامه على هيئة «الركوع». فطلب منه الشيخ حمدان الجلوس إلى جانبه أولاً، ثم قال له: ولدي لا تقف على هيئة «الركوع» لكائن منْ كان، فلا ركوع إلا لله سبحانه، لقد صاحب المرحوم هذا السنع الرباني والحس الإيماني طوال حياته ومسيرته الحافلة بالمنجزات في شتى المجالات.
ومن ثم بادر الشيخ حمدان بالسؤال عن حاجته لكسر حاجز الهيبة عند الشاب، فطلب منه أرضاً سكنية، فأشار حمدان إلى أحد معاونيه لتولي شأنه، وفي الصباح الباكر كان الرباح في اتصال هاتفي بموافقة حمدان على طلبه.
دار حديث جانبي في أحد فصول الشتاء حول فوائد الاغتسال بالماء البارد على الصحة العامة للإنسان، فقلت لسموه: من فوائده تنشيط الدورة الدموية، فعلق سموه مبتسماً لأن الماء البارد يجعلك تدور حول نفسك، فطبيعي أن تنشط الدورة الدموية. هذه الروح الظريفة لا تفارق محياه، وهي جزء من سجاياه التي لازمت شخصيته كإنسان ليس بينه وبين الآخرين حواجز الحكم أو التوزير.