أشرت في المقالة السابقة إلى مؤشرات استقطاب دولي جديد يعيد إلى الأذهان نموذج الحرب الباردة في ظل نظام «القطبية الثنائية» الذي اضطلعت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وحدهما بقيادة النظام العالمي. وقد تميز هذا النظام بهامش لحرية حركة واضحة للدول المتوسطة والصغيرة على أساس أن السباق على النفوذ بين القطبين كان يعطي تلك الدول نوعاً من الحرية في اللجوء لأحدهما إن رفض الآخر مطالبه. وقد بدا هذا واضحاً من لجوء مصر مثلاً في خمسينيات القرن الماضي إلى الاتحاد السوفييتي لتسليح جيشها بعد أن رفض المعسكر الغربي ذلك إلا بشروط، وتكرر الأمر نفسه في مشروع السد العالي الذي سحبت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي عرضها بتمويله، فاتجهت مصر صوب الاتحاد السوفييتي وحصلت على دعمه الاقتصادي والفني. وتكرر هذا النموذج لاحقاً مع عدد من الدول الأخرى. كما أن ثمة ملاحظة مهمة، وهي أن الاستفادة بهذا الهامش لحرية الحركة نبع من عوامل داخلية تُعَزز الاتجاه إلى الاستقلال في سياستها الخارجية، وتوظف الصراع بين القطبين لخدمة هذا الاستقلال. ولا يعني هذا أن الدول المتوسطة والصغيرة كانت «تتلاعب» بالقوى العظمى لأن لهذه القوى مصالحها العالمية، ولذا كان نموذج التعاون الذي ينشأ بينها وبين أي من القوى المتوسطة أو الصغيرة نتيجة الصدام مع القطب الآخر يتأثر بوضوح إذا مُست تلك المصالح. وعلى سبيل المثال، فقد تدهورت العلاقة بين مصر والاتحاد السوفييتي عندما أُعلنت الوحدة المصرية السورية في 1958، لأن القيادة السوفييتية نظرت لهذا التطور باعتباره يقطع الطريق على ما تخيلت أنه تغلغل للتيار الشيوعي في سوريا. والمثير أن حرية الحركة المتاحة في نموذج القطبية الثنائية سمحت لمصر بتغيير توجهها نحو الولايات المتحدة، إلى أن عاد التحسن إلى العلاقات المصرية السوفييتية. فهل يتكرر هذا النموذج مع بروز احتمالات استقطاب دولي جديد؟
من حيث المبدأ، فإن وجود خلافات في قمة النظام الدولي يخلق فرصاً للأطراف غير المتورطة مباشرة في الصراعات الدائرة في هذه القمة، كما رأينا في نموذج القطبية الثنائية. وقد رأينا الطريقة الاحتكارية التي أدارت بها الولايات المتحدة سياستها الخارجية عندما انفردت بقمة النظام الدولي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عقب أحداث 11سبتمبر2001 على سبيل المثال، فقد كان مبدأ الرئيس جورج بوش الابن «مَن ليس معنا فهو ضدنا» مما يستوجب عقاباً فادحاً، وقد أجاز مجلس الأمن للإدارة الأميركية غزو أفغانستان لمسؤوليتها عن استضافة منفذي أحداث 11 سبتمبر، لكنها تجاوزته في قرارها بغزو العراق، في إشارة أكيدة إلى اختفاء حرية الحركة في ظل القطبية الأحادية، ليس فقط للقوى المتوسطة والصغيرة، ولكن لقوى كبرى مثل فرنسا وألمانيا كانت تعارض الغزو دون موافقة مباشرة من المجلس.
وفي ظل التطورات الأخيرة التي تشير من ناحية إلى تعددية واضحة على قمة النظام الدولي، وإن لم تتبلور نهائياً بعد، ومن ناحية أخرى إلى وجود خلافات بين قوى متوسطة على الأقل وبين قوى كبرى، لا شك أن ثمة هامشاً ما لحرية حركة جديدة ينشأ في الساحة الدولية. ولا ننسى أن دروس الخبرة الماضية تشير إلى أن المتطلب الرئيسي للاستفادة من هذا الهامش، هو وجود الإرادة لدى الدول المتوسطة والصغيرة لتوظيفه لتحقيق مصالحها.
ومن حسن الحظ أن ثمة توجهاً واضحاً لدى عدد من الدول العربية لتنويع شبكة علاقاتها الخارجية بما ييسر لها نوعاً من حرية الحركة، وهي مسألة بالغة الأهمية نظراً لأن القوى الإقليمية المحيطة بنا توظف هذه الحرية بالفعل، كما في التنسيق التركي الروسي والمعاهدة الصينية الإيرانية الأخيرة.