تسهم الأفكار والمفاهيم الكبرى الحاكمة لممارسة العلاقات الدولية في تحريك وصناعة سياسات الدول. وهناك دول منتجة لتلك المفاهيم وتعبر عن روح الأمة لديها وعاداتها وتقاليدها وما تؤمن به من مبادئ وقيم في شتى مجالات الحياة، وأخرى مستهلكة لها وتتأثر بها ولا تؤثر فيها. وبالمقابل عندما نأتي لمصطلحات كانت وما تزال ضمن حزمة مفهوم العولمة لمفكرين وأكاديميين في الغالب من الولايات المتحدة الأميركية، وأفكارهم تُستهلك ليومنا هذا كمسلمات في دول العالم غير الفاعلة في حرب الأفكار والمفاهيم. وبالتالي تقع بصورة غير مباشرة ضحية لهذا النوع من الهيمنة الناعمة إنْ صح التعبير، وهي تأتي بالمجمل من منطلق معطيات التصنيف الغربي للحضارات من حيث الأهمية للبشرية وكانت نتيجة ذلك التأطير الممنهج بروز أنشطة عبر كل دول العالم تعبر عن تلك المفاهيم في ممارسات تنعكس بصورة أو بأخرى في سياستها الخارجية، ومن هنا كان صراع الحضارات مدخلاً إلى فعل مخالف للمفهوم وهو المراد الحقيقي من الدفع نحو أطروحة الصراع وبالتحديد الجذب العكسي وصولاً إلى تداخل الحضارات كمذهب دولي في العلاقات الدولية، حيث تبنت الدول الكبرى المتنافسة سياسة القوة وصارت القوى اليمينية في الولايات المتحدة وحتى في الصين وروسيا والهند، حيث يسيطر اليمين القومي المحافظ على الحكم في ركب تبني صراع الحضارات بمفهومه السياسي في علاقاتها الخارجية.
فكان في عدم وجود نسق عالمي يتحدى الديمقراطية الليبرالية بعد سقوط الأنموذج الشيوعي الإشتراكي فرصة ذهبية لعولمة مفاهيم العلاقات الدولية من المنظور الأميركي، وهذا هو جوهر الصراع بين الحكومات في كل من الصين وروسيا وأميركا، حيث تمثل الديمقراطية سياسة توسع جيواستراتيجي تهدد السيادة الوطنية للصين وروسيا، وخاصة بعد صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية الديمقراطية وبالتالي فشل الديمقراطية في عقلنة المنظومة الاجتماعية وبروز جماعات تقوم على الهوية والقومية والأبعاد الدينية المتطرفة وزرع النظم الديمقراطية في ثقافات لا تعبر الديمقراطية عن مسلمات تلك الشعوب وعاداتهم وقيمهم المتأصلة في مورثهم الشعبي ما أدى بدوره إلى فوضى خلاقة حيث ينتشر الفساد وسوء إدارة الموارد وثروات الدولة وسيطرة النخب على الاقتصاد وغيره من محاور ومكونات الدولة وتفشي الصراعات الأثنية وربط الديمقراطية بالطبقة الوسطى، وبالتالي أصبحت الديمقراطية العرجاء والنسبية أداة ضغط وتحكم بالشعوب والحكومات والثروات والموارد والأهمية الجغرافية لتلك الدول.
ومن جهة أخرى، من المهم أن يستقل عالمنا العربي عن التبعية الفكرية للغرب وعدم الركون غير النقدي إلى آراء المفكرين والمستشارين الأجانب للحكومات العربية وكبرى مؤسساتها، وتسليط الضوء على المفكرين والاستراتيجيين والمستشارين الذين يمثلون المجتمع المحلي، حيث إنه في الغرب والدول الكبرى على وجه العموم تُعد مراكز البحث والدراسات والتفكير ودعم القرار والجامعات والمؤسسات الحكومية الاستراتيجية الممثلة بمواطني تلك الدول الداعم الأساسي في صناعة توجهات تلك الدول.
وبدورها تهيمن على السياسة الخارجية للدول الكبرى فكرة الأهمية العالمية لثقافتهم بالنسبة لبقية العالم، وقد أتاح التطور المستمر لوسائل التفاعل بين الناس، والتوسع المطرد في أشكالها، وموثوقية الاتصالات واستقرارها، فرصاً غير محدودة للتفاعل بين الثقافات من دون وساطة تقريباً، وأصبحت تدفقات الهجرة واسعة النطاق في العالم الافتراضي تصب في تطور النظام العالمي ووضع الدول الكبرى أهدافاً سياسية لها تكون عملية وقصيرة الأجل، والهدف الرئيس منها هو ضمان الموقع العالمي الرائد لها وتطبق الدول الديمقراطية من هذا المنطلق غالباً ممارسات تكون غير ديمقراطية، بل رجعية، وقوى قومية، وقوى محافظة متطرفة لا تجعل العالم مكاناً أكثر راحة واستقراراً وأمناً.