بمناسبة صدور روايتي «الشنقيطي» مطلع السنة الجارية، سألني الناشر البارز: لماذا تزايدت في سنة كورونا الأعمال الروائية، وكان لكتاب الفلسفة نصيب وافر منها؟ هل لأن الجائحة أسكتت عقولهم وأطلقت مخيلاتهم، أم أنه لم يعد لديهم ما يكتبون في شؤون الفكر والنظر؟
رددت على الناشر بأن الرواية جنس فلسفي عريق، ويكفي أن أول الفلاسفة وأكثرهم تأثيراً ماضياً وحاضراً أفلاطون صاغ كتاباته الفلسفية في قالب روائي حواري. وكان للفلاسفة العرب من أمثال ابن سينا والغزالي وابن طفيل ميل إلى هذا النهج السردي في أعمالهم الفكرية. وفي العصر الحديث ارتبطت الرواية بالفلسفة، بدايةً من فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر الذين أبدعوا مسلك الرواية التأملية الحديثة من أمثال فولتير وروسو وديدرو.. انتهاءً بفلاسفة القرن العشرين وفي مقدمتهم جان بول سارتر.

وفي الساحة العربية، كان للفلاسفة دورهم في تأسيس الرواية الحديثة وأشهرهم بدون منازع نجيب محفوظ الذي صوّر أوضاع المجتمع المصري المعاصر بعدسة الفيلسوف وأسس السرد الذهني التأملي في الأدب العربي.
ما يميز الرواية الحديثة إجمالاً هو ما كان قد نبّه إليه الناقد والفيلسوف المجري جورج لوكاتش في نظريته الشهيرة حول الرواية من كونها تعبّر عن اغتراب الفرد ومنزلته الإشكالية ضمن المجتمع المتصدع الذي فقد انسجامه الطبيعي وبهاءه السحري.
ومن الواضح أن أغلب الروائيين طرحوا هذا الإشكال، سواء من خلال أزمة الهوية الوجودية للفرد في علاقته بمحيطه الطبيعي والاجتماعي، أو أزمته الحضارية في مواجهة حركية تَشكُّل العالم الراهن ضمن سياق التفوق الغربي.
وفي المنحى الأول، نجد الإشكال المرتبط بحركية الحداثة نفسها وما تطرحه من أزمة عميقة في النظر والعمل، بتقويض المرجعيات الثابتة في المعرفة وتأسيس الحقيقة على معيار اليقين الذاتي المحض ونسف النظام المنسجم والمتناغم للطبيعة وتحويلها إلى قوة فيزيائية صلبة، بحيث يصبح التحدي الأكبر هو معاشرة وجود انتفى عنه السحر واختفى فيه الشعراء وغاب المقدس.
ومن هنا ندرك كيف أن سؤال الأزمة واكب منذ بداية فكر الحداثة سؤال التقدم الذي هو مفتاح فلسفة عصور الأنوار، كما لاحظ روسو نفسه الذي لم ير في مثال تطور الإنسانية التاريخي نحو الأفضل أكثر من فكرة للمواساة والترضية كما كرر كانط أيضاً.
وفي المنحى الثاني، نلمس كيف طرح الروائيون من خارج العالم الغربي أزمة الهوية الحضارية للإنسان الغارق رغم أنفه في لجة الحداثة بقيمها وتحدياتها في واقع العيش ونمط الوجود المشترك.
ولقد طرح الروائيون العرب هذا الإشكال منذ رواية توفيق الحكيم الرائدة «عصفور من الشرق» (1938) ورواية محمود المسعدي ذات السبك الفلسفي التراثي القوي «حدث أبو هريرة قال» (كتبت في الأربعينيات ونشرت في السبعينيات)، وانتهاءً برواية الطيب صالح الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» التي انتشرت على أوسع نطاق (صدرت عام 1964). كما أن الأدب السردي في بلدان الجنوب الأخرى اهتم بالإشكال نفسه، ومن أبرز أمثلته رواية «المغامرة الغامضة» التي كتبها بالفرنسية السياسي والفيلسوف السنغالي الشيخ حميدو كان (1961).
ما نخلص إليه من هذا العرض هو تجذر سؤال الهوية في الكتابة السردية الحديثة، بما يفسر الطفرة الراهنة في الرواية العربية التي تبدو أكثر قدرةً على التعبير عن أزمة الهوية التي يعيشها راهناً الإنسان العربي في نمطي وجوده الفردي والجماعي.
لهذه الأزمة مستويات ثلاث بارزة: انهيار الأوطان والدول الذي حدث في ساحات عديدة، خصوصاً بعد أحداث ما عرف باسم «الربيع العربي» في العشرية الأخيرة، مع ما واكبه من مآسي التهجير والموت العنيف والنفي، وضياع البوصلة الفكرية والعقدية إثر انهيار المشروع القومي العربي وطغيان حركات التطرف الديني العدمية، وتراجع وتأزم مشروع الحداثة في مهده الأصلي بما لهذه الظاهرة الكونية من أثر على الوعي العربي ومن إشكالات إنسانية حادة تعبر عنها حركية الإبداع الأدبي. 
وكان الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قد بيّن من خلال مفهومه للهوية السردية، أن الهويات تتشكل وتتحدد وفق الرواية والحكاية باعتبار أن الإنسان يعيد إنتاج وعيه وشخصيته، من خلال اللغة والتخاطب حيث تؤدي الأساطير والرموز المؤسسة دور الإبداع المتجدد للذاتية الثقافية في علاقتها بالتاريخ المتصل.
وفي المنعرج الحاسم الذي تشهده راهناً المنطقة العربية والعالم عموماً، تشتد الحاجة إلى الرواية من أجل التفكير في الوضع القائم واستكشاف سبل المستقبل.