كتبت هنا منذ أزيد من ثمانية أشهر أن التسونامي الصحي الذي يعصف بالعالم بدأ يترك تداعيات جسيمة على حياة البشر واقتصاديات دولهم، وبدأت تتغير أمور كثيرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً وطبياً، وأصبحت الزيادة في الإنفاق على مجال الرعاية الصحية والاجتماعية من أولويات الدول بأسرها، وبدأت علاقات الدول تتغير فيما بينها وعلاقة الأفراد بالمجتمعات وبالطبيعة ونوعية العلاقات داخل المجال السياسي العام.. إلخ. ورغم ما نسمعه من تعافٍ لبعض الاقتصادات في بعض من المجالات، فإن القيود الصحية والبلبلة المتواصلة في سلاسل الإنتاج والتوريد ستعيق أي انتعاش اقتصادي حقيقي، كما أن الدَّين العالمي سيصل إلى مستويات لا يمكن أن تُحمَد عقباها.
كنت أتمنى أن أكون مخطئاً، لكن هذا ما أظهرته للأسف أحدث تقارير معهد التمويل الدولي الذي أشار إلى ارتفاع الدين العالمي إلى مستوى قياسي عند 281 تريليون دولار في عام 2020، مع توسع الحكومات في الإنفاق لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، وأضحى الدين العالمي بهذه الزيادة يعادل 355 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنهاية 2020، بزيادة 35 نقطة مئوية عنه بنهاية 2019. وهذه الزيادة السنوية في حجم الدين العالمي، هي أضعاف الزيادة إبان الأزمة المالية العالمية التي بدأت في 2008، ونتجت عن انهيار سوق الرهن العقاري بالولايات المتحدة، وامتد تأثيرها إلى كل أنحاء العالم.
وفي نفس السياق، حذّر البنك الدولي في تقرير صدر له منذ أيام من أن الدين العام لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيتضخم، ويمثل 54 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي هذا العام مقابل 46 في المائة في عام 2019، بسبب النفقات المتعلقة بجائحة «كوفيد-19». وأشار البنك الدولي إلى أن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت «زيادة كبيرة في ديونها» بسبب اضطرارها إلى «الاقتراض بشكل كبير» لتمويل «تكاليف الرعاية الأساسية وإجراءات الحماية الاجتماعية». كما أن حجم دين الدول المستوردة للنفط في المنطقة سيشكل نسبة يمكن أن تصل إلى 93 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في عام 2021. ثم أضاف: «لن يكون لدى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خيار سوى مواصلة الإنفاق على الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية طالما استمرت الجائحة».
وشهدت المنطقة التي تضم حوالي 20 دولة، انكماشاً في اقتصادها بنسبة 3.8 في المائة العام الماضي. ويقدّر البنك الدولي التراجع التراكمي للنشاط في المنطقة بحلول نهاية 2021 بنحو 227 مليار دولار. لكنه يتوقع تعافياً جزئياً هذا العام «شرط أن يكون هناك توزيع عادل للّقاحات».
وهذه المعضلة لا تعاني منها دول الشرق الأوسط فحسب، بل جميع دول العالم. ثم إن دولاً مثل فرنسا تسجل ركوداً كبيراً جرّاء أزمة تفشي وباء «كوفيد-19»، مع تراجع إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 8.3 في المائة، بحسب تقديرات نشرها المعهد الوطني للإحصاء. وأفاد المعهد أنه خلال الحجر الثاني، كان تراجع النشاط «أكثر اعتدالاً بكثير من تراجعه المسجّل خلال الحجر الأول بين مارس ومايو 2020»، وفي الفصل الأخير من العام تراجع إجمالي الناتج الداخلي «بنسبة 5 في المائة عن مستواه المسجّل قبل عام». وبعد تسجيل نمو بـ1.5% عام 2019، وهو من بين الأعلى في منطقة اليورو. وعموماً فقد سجّلت فرنسا في عام 2020 ركوداً قياسياً منذ الحرب العالمية الثانية. وتُرجمت أزمة وباء «كوفيد-19» التي دفعت الحكومة الفرنسية، بل وجل الحكومات الأوروبية والغربية، إلى وقف أو تقليص النشاط الاقتصادي بشدة للحد من ارتفاع عدد الإصابات؛ فمثلاً أدت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا إلى خسائر قياسية لمجموعة «رينو» الفرنسية لصناعة السيارات، بلغت ثمانية مليارات يورو في عام 2020. وإضافة إلى أزمة «كوفيد-19»، تكبّدت المجموعة الفرنسية خسائر بلغت 4.9 مليار يورو بسبب ما شهدته شريكتها اليابانية «نيسان» التي تملك «رينو» 43 بالمائة منها. 
والحقيقة أن هناك ضبابية شديدة تحيط بالطريقة التي يمكن للاقتصاد العالمي أن يسدد بها الديون في المستقبل دونما تداعيات وخيمة على النشاط الاقتصادي، كما أن الظروف الجيو-اقتصادية العالمية الحالية لا يمكن إلا أن تدعو إلى الإنفاق لمعالجة الأزمة الصحية، بمعنى أن مواصلة الإنفاق والاستمرار في الاقتراض سيبقيان ضرورةً ملحة لضمان الاستقرار الاجتماعي في الدول.