«كتل شيعية متنفذة تطلب تقييد لجنة مكافحة الفساد، بعد اقترابها من اعتقال قادة بارزين في الفصائل»(المدى البغدادية 24 مارس2021)، المقصود بالفصائل «المسلحة»، ليست فصيلة الدم، ولا ابن النَّاقة، لكن مَن يحمي الذي يُسميها باسمها، وهي لحماية الفاسدين استعرضت قوتها وسط بغداد مؤخراً؟! أقول: ليس هناك دولة خلت مِن فسادٍ مالي وإداري، فالمال والمنصب مغريان، إذا تُركا بلا رقيبٍ وحسيبٍ، وبلا تجديد وتكييف سبل الرّقابة، ففي نهاية الخمسينيات، مِن القرن الماضي، نشطت الحكومة العِراقيَّة الملكيّة مكافحة الفساد، بطرح شعار «مِن أين لك هذا»، مع أن الفساد آنذاك كان يجري بسرية تامة ورعب مِن الفضائح، وأشاعت السُّلطة في إعلامها هذا الشِّعَار، وحينها غنت عفيفة إسكندر(ت:2012): «مِنْ أين لك هذا/ هذا من فضل ربي/ مِنْ أين لك هذا/ هذا مجهودي وتعبي/ ما تُكلي(قل لي) من أين لك هذا»! مِن المؤكد كلّ إجراء ضد الفساد يبدأ بالسُّؤال: «مِن أين لك هذا»! 
لكنَّ عندما يكون الفساد مسلحاً، وله يد طولى في السُّلطة، يُحرم هذا السؤال، لأن الفساد قاعدة والأمانة شَّواذ! وما يؤسس مِن أجهزة للنزاهة والرَّقابة تبقى خاضعة للفساد نفسه. 
حصل ببغداد أنْ نشط اللُّصُوص، وكثرت الكبسات(السَّطو) نهاراً، فكانوا «يمشون بثياب التُّجار في النَّهار، فلا يعرفهم الإنسان حتى يأخذوه، فأخذت خرق الصَّيارف(الصَّيارفة)، وضاقت المعايش (ابن الجوزي، المنتظم)، وها هم يمشون بثياب العسكر مستعرضين سلاحهم، ورايتهم بعنوان «ربع الله»! 
كان يجري اتفاق بين وزير أو قاضٍ واللُّصوص، يطلقون أيديهم في اللصُوصية مقابل حصة يدفعونها مما يسرقون، واشتهر آنذاك اللِّص ابن حمدي واللِّصان هاروت وماروت برعاية المملوك التركي أمير الأمراء مع الخليفة العباسي، والوزير مع البويهيين، ابنُ شيرزاد، خلال (333-334 هجرية)، حينها «ظهر اللُّصُوصُّ وأخذوا الأموال، وجلا التّجار»(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ)، ومعلوم أنَّ البلاد التي يهجرها التُّجار يهتز اقتصادها. 
أكبر معاناة اقتصاد الدَّولة التي يسودها الفساد المسلح- واليوم كأنه الأمس- أنّ المستثمر المحلي والأجنبي يتردد، عندما لا يجد الأمن له ولأمواله، فالدَّولة ليست دولة، والتَّهديد يأتي مِن متنفذين، وفصائل مسلحة، التي لا تسمح بالوصول إلى رؤوس الفساد. 
إلا أن «شحنكية بغداد»(نائب الشَّرطة)، كان مقداماً، حضر عند السُّلطان السّلجوقي، فقال الأخير له: «إن السياسة قاصر والناس قد هلكوا»! فأجابه: «إذا كان عقيد العيارين ولد وزيرك وأخا امرأتك، فأيّ قدرة لي على المفسدين؟! 
فابن حمدي اللص ليس شخصاً، إنما كان مؤسسة مِن اللُّصوص. مِن صالح اللصوص، وهم الفاسدون اليوم، أنَّ تبقى الأزمات قائمة، والأمن غير مستقر، فهم ينشطون خلال الكوارث والأزمات والأوبئة. غير أن الزمن لم يستمر ضاحكاً لابن حمدي، ولا لحاميه أمير الأمراء، قُتل الأول بـ«التوسيط» قُطعه نصفين(الكامل في التَّاريخ)، وسُملت عينا الثَّاني (القُرطبي، صِلة تاريخ الطَّبري). كان قتل اللِّص المسلح يوم سرور ببغداد، فقال النَّاس:«ما أَمِنا على أنفسنا وأموالنا إلا الآن، بقتل ابن حمدي وأصحابه«(مسكويه، تجارب الأُمم)! 
نجد في عبارة «كان اللُّصُوصّ يمشون بثياب التجار في النَّهار» تعبيراً عميقاً عن سيادة الفساد وانحسار الدولة، فالفاسد غدا مدرعاً بدرعها. تعيش بغداد مع الفساد تلك الفترة وأسوأ، وحينها تداول البغداديون المثل:«خذ اللِّصَّ مِن قبلِ أنْ يأخذك»(الثَّعالبي، التَّمثيل والمحاضرة).