يشدّد الاتحاد الأوروبي سياساته تجاه روسيا والصين لملاقاة إدارة الرئيس جو بايدن في استراتيجيتها للأمن القومي (المعلنة في 4 مارس 2021)، وكذلك فعلت بريطانيا التي جعلت من مواجهة الدولتين الكبريين محوراً لاستراتيجيتها الجديدة (16 مارس). وفيما تركّز واشنطن على تنشيط الشراكة مع أوروبا، تصوّب لندن على تقوية العلاقة الخاصة المستدامة مع أميركا، وعلى تعزيز وجودها في المحيطين الهادئ والهندي، المنطقة التي حدّدتها «استراتيجية بايدن» محوراً لوجودها العسكري الأقوى. أما بالنسبة لأوروبا، فإن بريطانيا «ما بعد بريكست» مصممة على التمايز ولا تبحث عن «شراكة»، لكنها تشير إلى العمل المشترك في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو). ورغم أن استراتيجية «بريطانيا العالمية» ثمرة مراجعة بدأت غداة انتهاء الحرب الباردة، قبل ثلاثة عقود، إلا أن الإعلان عنها أخيراً يبدو محكوماً بالمتطلبات الاقتصادية لما بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وضرورة إخراج السياسة الخارجية البريطانية من انكفائها.
تحاول الدول الغربية إعادة إنتاج تعاضدها، بعدما ساهمت سياسات دونالد ترامب في زرع الشكوك والخلافات في ما بينها وداخل كلٍّ منها، سواء بإثارة اليمين الشعبوي الذي تصاعد مدّه مهدِّداً قيم الديمقراطية، أو بهزّ التضامن الأطلسي (أزمتا ليبيا وتركيا -اليونان، والموقف الترامبي الغامض من روسيا)، أو أخيراً بالتداعيات الصحّية والاقتصادية لتفشّي وباء كورونا وتفرّق الجهود الأوروبية في مواجهتها. ومع أن هذه الدول تبدو على موجة واحدة في تحسّس التهديدات الصينية والروسية، إلا أن استعداداتها للانخراط في المواجهة مع موسكو وبكين لا تُظهر انسجاماً كلما تعرّضت لاختبار اتخاذ مواقف أو فرض عقوبات. فالمصالح التي نشأت مع الصين وروسيا، في العقدَين الأخيرين، تُوجب على مختلف العواصم تقويم وضعها إزاء نسخة جديدة من الحرب الباردة.
وقد اعتبر الرئيس بايدن أن أميركا «يجب أن تشكّل مستقبل النظام الدولي»، وتحدّث بوريس جونسون عن «دور بريطاني أكثر نشاطاً في الحفاظ على النظام الدولي»، مشيراً بوضوح إلى التزام بلاده «مساعدة أميركا في مواجهة التحدّيات الروسية والصينية» كشريك في الأمن والدفاع والاستخبارات، وكذلك من خلال «الناتو». وبالنسبة للشرق الأوسط، تتشارك الدولتان رفض الحلول العسكرية، باستثناء محاربة الإرهاب، لكنهما لا تبديان تصميماً واضحاً على حلول سياسية للنزاعات التي غدت بدورها مصدراً لتوليد الإرهاب. وفيما تخطط واشنطن لإبقاء «ما يكفي» من القوة «لردع التهديدات الإيرانية» في المنطقة، فإن لندن تبقي موقفها غامضاً حيال إيران ولا تضعه بين أولوياتها المعلنة، رغم أنها تعتزم نشر مزيد من القوات في نقاط من آسيا وأفريقيا.
لا شك أن التحالفات والشراكات التي تريد أميركا إحياءها وتنشيطها ستنشغل أيضاً بمنظومة تحدّيات (وباء كورونا، تغيّر المناخ، التطورات التكنولوجية والحرب السيبرانية.. إلخ)، وبالتالي فإن واشنطن ستعتمد حكماً على بريطانيا، لكن ابتعاد شريكها المميّز عن أوروبا قد يشكّل عنصر تعقيد لإنفاذ السياسات المشتركة، وبالأخص لعقد الاتفاقات التجارية. وبالمقابل، تلاحظ بعض التحليلات أن بريطانيا تدرك وجود تراجع نسبي في النفوذ الأميركي، وتجد نفسها أمام فرصة تاريخية ترشّحها لملء الفراغ باستثمارها في تطوير قوتها العسكرية وتلميع مكانتها الدولية. وسيكون على أميركا أن تعالج التناقضات بين حلفائها لتتمكّن من توحيد الصفوف في مواجهة القوى المنافسة، الكبرى والمتوسطة، التي غيّرت الكثير من المعطيات في النظام الدولي.