حسن النوايا لا يُقاس بالقرابين بل بالسياسات الملموسة، وإنْ أراد الرئيس أردوغان تصحيح مسار العلاقات العربية التركية، فعليه تحديد مواقف تركيا من الملفات الحقيقية لا الإشكالي منها، أي الانخراط الفعال في إعادة الأمن والاستقرار في حوض الرافدين، والدخول في حوار جاد بشأن سياسات تعطيش العراق وسوريا. ثانياً، تفهم أسباب الانخراط العربي والخليجي ضمن منظومة أمن المتوسط لتكافله وأمن الشرق الأوسط. ثالثاً: دعم مساعي إعادة الاستقرار في القرن الأفريقي لصلته المباشرة بأمن كافة دول شبه الجزيرة العربية.
إغلاق قنوات إعلامية من عدمه، هو شأن تركي، ويجب ألا يُعتبر أو أن يُسمح له أن يرقى إلى ما هو أبعد من ذلك، ولنا من تجارب الأمس الكثير، من «صوت العرب» إلى «قناة الجزيرة». أما إرث تلك المحطات، فسيبقى شاهداً على مواقف من تتبع سياسياً، وأخلاقياً، ومهنياً. المكيافيلية هو ركن أصيل في فقه كل التيارات المُتأسلمة، وعلينا التأقلم مع ذلك الواقع سريعاً، وربما كان قرار الإغلاق بهدف إعادة توجيه الأنفاق وليس فقط تعزيز مقاربة التصالح مع مصر، حتى وإن اختُلف في ذلك مع الطرف الممول. أما افتراض أن تلك القرابين ستكون كافية لكتابة فصل جديد في العلاقات العربية- التركية، فإنه عبثية سياسية.
صناعة المقاربات تستلزم إخضاعها لآلية قابلية استدامتها، لذلك على تركيا «السياسية» إعادة تقييم موقفها من الجغرافيا السياسية، والتصالح مع نزعة إرثها العثماني بكل تفاصيله. فالمستقبل سيحتكم لمبادئ المصالح المشتركة، وليس فقط نتيجة التداخل الجغرافي رغم ما تفرضه الجغرافيا. ونجاح تركيا يعنينا، وكلنا يتمنى لها ذلك لما تمثله من ثقل آسيوي أوروبي، وتأثيرها الإقليمي من قضايا مشتركة حيوي ويمس الأمن القومي المشترك لعموم دول الشرق الأوسط. إلا أن الخلط بين الكبرياء السياسي والأولويات الوطنية هو ما يستلزم المراجعة تركياً.

تركيا نتيجة نهجها الأيديولوجي، وجدت نفسها دون عمقها الطبيعي آسيوياً وأوروبياً، وفي مواجهة سياسية مع الحلفاء والخصوم. فهل تبنيها المصالحة مع أكبر دولة عربية، هو بهدف طي صفحة الماضي، أم أنه مدخل لمستراح تفعيل التباينات العربية العربية. لذلك يجب التحسب للفرضية الأخيرة نتيجة فشل العرب في إدارة التباينات عبر تاريخهم السياسي القديم والجديد.

المغامرة هي سمة تركيا السياسية، لذلك علينا الترحيب برغبتها في التحول وتخليها عن ذلك، إلا أنه مشروط بإثبات ذلك قبل سواها. فهل ستتخلى عن جملة مشاريعها السياسية دفعةً واحدةً، أم ستكون بمقياس «ترسيم الحدود البحرية بين تركيا ومصر»، كما عبر عنها أحد السياسيين الأتراك حديثاً.
حوض المتوسط هو ميدان تعزيز حظوظ المقاربات السياسية بين عموم دوله، وأمن المتوسط بات مرتبط عضوياً بأمن الشرق الأوسط سياسياً، واقتصادياً، بل وحتى اجتماعياً. لذلك على الجميع إعادة تقييم كل المقاربات على أساس التكافل والتكامل لا انطلاقها من مبدأ الهيمنة العبثية.
* كاتب بحريني