في يوم 25 مارس 2021، أي قبل ثلاثة أيام من الآن، أصدرت صحيفة «النهار» اللبنانية اليومية ملحقاً بعنوان «بناء السلام في لبنان». وبمطالعة المقالات والتحقيقات المنشورة بالملحق، تبين لي التركيز على المبادرات المدنية والأهلية في محافظة جبل لبنان، سعياً من جانب أصحاب المبادرات للإبقاء على الحد الأدنى من الحياة الطبيعية في ظل الانهيارات، وغياب إدارات الدولة، والانقسام السياسي البالغ، والعجز عن تشكيل حكومة.
لقد ذكرت الصحيفة في تحقيقاتها أمثلةً للحياة التعاوُنية في القرى والبلدات لتأمين الضروريات، مثل الخبز والمواد الغذائية الأُخرى والأدوية وأجهزة الأوكسجين ومراكز الإسعاف.. بسبب تفاقم وباء كورونا والارتفاع المطّرد في أعداد المصابين وفي أعداد المتوفّين من كبار السنّ وصغارهم. بل ويتجاوز الأمر ذلك في المبادرات الأهلية (وبعضها آتٍ من بعض البلديات) إلى محاولات الحدّ من مظاهر وظواهر التفلت والفوضى العمرانية الناجمة عن الفساد الوساطات والعشوائيات. ويضيف كاتب أحد التقارير عن هذه النشاطات أنها تناولت أيضاً العناية باللاجئين الفلسطينيين في مخيم حي برج البراجنة. 
لقد حدثت في لبنان ثلاث أزماتٍ هائلةٍ صارت الآن أربعاً: انفجار المرفأ ودمار ثلث بيروت في ذاك الحَدَث الهائل، والأزمة التي أحدثها انفجار الوباء، وأزمة الدولار وانهيار المصارف. ثم تفاقمت الأزمة الرابعة والناجمة عن عجز الطبقة السياسية عن تشكيل حكومة تتصدى للأزمات الثلاث السالفة الذكر.
إنّ التضامن الأهلي والمدني في جبل لبنان، حدث مثله في سائر أنحاء البلاد، وبخاصة بعد انفجار المرفأ، وانفجار الوباء. فقد تضررت بانفجار المرفأ عشر مستشفيات كبرى معظمها خاصّ، لكنها من كبريات مستشفيات لبنان. وقد قتل الانفجار المروّع مائتي شخص وأُصيب ستة آلاف آخرين. وما استطاعت المستشفيات المخرَّبة أن تستقبل آلاف المصابين، ولا استطاعت استيعابهم عشرات المرافق الصحية خارج بيروت. ومع انفجار الوباء بدا الوضع يائساً. فالمرافق الصحية المعتبرة معظمها مدمَّر، والباقي منها غير مهيّأ لاستقبال مرضى الوباء. ولذلك، ووسط حالة من اليأس، اتجه الجميع للتفكير في المستشفيات الحكومية وعددها يناهز الثلاثين على الأرض اللبنانية، وعلى رأسها مستشفى رفيق الحريري ببيروت. لكنها –كما تبين– مستشفيات بالاسم فقط. فمنذ قرابة عقدين من السنين ما جرى الاهتمام بها تجهيزاً أو كوادر طبية وتمريضية. 
بيد أنّ التضامُن الوطني ظهر بشكلٍ أوسع في أزمة الغذاء، لأنّ المواطنين صاروا عاجزين حتى عن شراء الخبز والحليب لأطفالهم بسبب جنون الأسعار؛ نتيجة انهيار الليرة اللبنانية من 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، إلى ما يقارب الخمسة عشر ألف ليرة في الأيام الأخيرة. وهذا فضلاً عن عدم قدرة الصيدليات وصالات البيع الكبرى على استيراد الأدوية والأغذية، لأنّ فلوسها بالعملة الصعبة محتجزة في البنوك التي لا تسمح للمودِع أن يحوّل من حسابه دولاراً للخارج!
انتشرت الجمعيات الخيرية والمدنية في شتى الأنحاء للمساعدة والدعم. وقد تبين (حسب إحصائيات الجيش) أنّ هناك 320 ألف أسرة ليست تحت خط الفقر، بل تحت خط الجوع! الدولة (ومن المساعدات الدولية التي تأتيها وهي قليلة) تُقدِّم حوالى المليون ليرة (أقل من مائة دولار) كل بضعة أشهُرٍ للأسرة.
لقد أظهر كثيرون من اللبنانيين قدرات هائلة على التضامن وعلى مساعدة الآخرين. لكن هل يكفي ذلك كلّه، وهل يُغني عن وجود حكومةٍ ودولة؟! كان الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، يسأل في تسعينيات القرن الماضي نفسَه ومحاوريه: لماذا يُنشئُ الناس دولاً وأنظمة؟ وكان يجيب نفسه: لتحسين شروط حياتهم، وصون حقوقهم الأساسية، وحفظ انتمائهم وعيشهم المشترك، فمن الذي يقوم بذلك اليوم؟ أوَ لم نقل إنّ الأزمة الرابعة في لبنان هي أزمة تشكيل حكومة؟!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية