كلنا ندرك جيداً أن الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله، رحل وترك إرثاً إنسانياً حافلاً بالإنجازات والمكرمات، فهو صاحب القلب الكبير الذي ينبض بحب الخير والتضحية بما قدمه لبلاده في حياته، والذي كان همه منصرفاً إلى الأعمال الإنسانية، وشغفه مرتكزاً على رعاية الثقافة والآداب والتطورات العلمية، وحرصه منصباً على التنمية البشرية المستدامة في بيئة إماراتية مستقرة ترتكز على الحوار والشراكة.. كان، رحمه الله، صاحب أيادٍ بيضاء طالت أماكن العوز والحاجة في كل مكان؛ أنشأ المدارس والجامعات في البلاد المحتاجة للعلم والتعليم، وحفر الآبار للسقيا، وبنى المستشفيات، وتكفّل برعاية الأرامل واليتامى وتعليمهم وتوفير الرعاية الصحية لهم.
لقد كان مدرسة في العلوم المالية والاقتصادية، بل هو مَن قام بتطوير هذا المجال على المستوى المحلي، إلا أن ما لا يعلمه الآخرون أنه كان علّامة ذا ثقل كبير في تاريخ الإمارات، وقد استفاد منه العديد من المؤرخين الإماراتيين ممن حُظوا بلقائه والنهل من ينبوع معرفته وإبداعه في هذا المجال. 
كان لي شرف الالتقاء شخصياً بالشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله، في مجلسه المعتاد بعد المغرب في منطقة زعبيل بدبي، وذلك في عام 2017، وكان حينها قد وافق، رحمه الله، على الاستماع لي حول موضوع كتاب تاريخي عن إمارة دبي، كُنت قد كتبتهُ كمخطوطة، وأردتُ الاستئناس برأيه فيما أود من طرح، وذلك لعلمي بشغف سموه بالتاريخ الإماراتي عموماً، حيث يشيد الكثير من الناس بولعه بالتاريخ الإماراتي على وجه الخصوص. وكنتُ قد أعددتُ رؤوس أقلام مكتوبة لسموه ليقرأها، فكان يستمع لي بإمعان، وبعد أن انتهيت قال لي وبكل تواضع بما معناه: «اتفق معاك هنا، واختلف معاك هناك»، ثم فتح نقاشاً تاريخياً استمتع به جميع من حضر ذلك اللقاء، والكل كان متلهفاً لسماع بعض الحقائق التاريخية، فكان يتجادل معي بكل ثقة في كافة النقاط التي ذكرتها، ويبرر الاختلاف على ما تم تدوينه من قبل بعض المؤرخين حول تاريخ الإمارات.
بعد انتهاء النقاش ومغادرة سموه للقاعة، أكد لي بعض مَن كان متواجداً على سعة إطلاع سموه وتبحره في مجال التاريخ، وبأن آخذ كل ما يقوله على محمل الجد. وذكر لي أحدهم قصة يؤكد فيها على مدى دقته رحمه الله، فكيف إذا كان يتحدث في التاريخ، حيث ذكر لي أنه رحمه الله اشترى ثلاثة خيول من أحد المزادات في الولايات المتحدة، وعندما استلم الخيول الثلاثة ربت على رأس أحدها ورفض استلامه معللاً ذلك بأنه لم يختر هذا الحصان، في حين يؤكد البائعون لسموه على أنه الحصان الصحيح، لكنه رحمه الله رفض استلامه وأمر الباعة بمراجعة سجلاتهم مرة أخرى، وهذا ما تم بالفعل، وحين تمت المراجعة تأكدوا فعلاً أنه لم يكن الحصان المطلوب، وتمت إعادته وتسليم الحصان الصحيح.
ومنذ أن أبصرت عيناي النور وتفتحت على الحياة، أنا وغيري من أبناء الإمارات، ونحن نتلمس ونتداول العملات الورقية المحلية الممهورة بتوقيع «حمدان بن راشد آل مكتوم» وزير المالية على مدى العقود الخمسة الماضية، ويبدو أننا مستقبلاً سنفتقد هذا الاسم الذي اعتدناه على هذه العملات. غير أننا سنظل نردد قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في مرثية شقيقه حمدان: «بصمتِكْ ما تنمحي وفعلكْ حِميد».
رحم الله تعالى فقيد دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وألهم آل مكتوم الكرام وشعب الإمارات جميل الصبر والسلوان.

*كاتب إماراتي