فجرت وزيرة التعليم العالي الفرنسي «فريدريك فيدال» أزمة كبرى في الحقل الأكاديمي والبحثي الفرنسي، بدعوتها إلى القيام بتحقيق تربوي ومهني في الأوساط الجامعية لمواجهة ظواهر النقد الثقافي الجديد التي تندرج في أدبيات نزع الاستعمار ومحاربة «امتياز الإنسان الأبيض».
لقد اعتبرت الوزيرة الفرنسية أن هذه الموجة الجديدة التي يطلق عليها في الولايات المتحدة حركة «الوعي» Woke تقوض منهجية البحث العلمي من خلال الأفكار والشعارات الأيديولوجية التي أفضت إلى نمط من القهر المعرفي باسم «ثقافة الإلغاء» cancel culture التي تعتبر أن المجال العلمي ميدان لممارسة النضال ضد أشكال التمييز والتسلط التي هي من أدوات الهيمنة والإقصاء. ولهذه الثقافة، حسب هذا التصور، عدة روافد من بينها رافد الأدبيات النسوية التي اعتمدت المقولة الجندرية لتصور الروابط بين الجنسين باعتبارها غير طبيعية بيولوجية، بل هي ثقافية مجتمعية تنسحب على البنية الاجتماعية في عمومها. ومن بين هذه الروافد النضال الحقوقي ضد العنصرية الملتبسة، باعتبار أن المظهر الأبرز اليوم للاستغلال والإقصاء ليس العامل الطبقي، بل طبيعة اللون والعرق، بحيث يمكن القول إن مناهج العلوم الاجتماعية في الغرب تنزع دوماً إلى إعادة إنتاج الهويات الإثنية والعرقية، من خلال الأدوات النظرية، لبناء سياج من الشرعية الوهمية على علاقات القوة والسلطة القائمة. ومن هنا القول إن الحياد أو الموضوعية في العلوم الإنسانية مجرد ادعاء زائف، فالتصنيف والوصف والنمذجة والصورنة.. كلها من أساليب حجب وإخفاء استراتيجيات الهيمنة الخفية، إلى حد أن الباحثين أنفسهم الذين يلجؤون إلى هذه الأدوات المنهجية ينتهون إلى استبطان علاقات السيطرة والاستغلال.
إن هذه الروافد كلها تلتقي في عبارة «التداخل القطاعي» intersectionality التي بلورتها عالمة الاجتماع الأميركية «كرمبليه كرنشاو»، وتعني بها تداخل وترابط أنماط التمييز العرقية والجندرية، وقد أصبحت المقولة توظف اليوم في نطاق أوسع لتشمل مختلف أنواع الإقصاء والإلغاء، من منطلق الكونية الغربية.
إن هذه الأفكار بذاتها ليست جديدة، وأغلبها يرجع أصله للفلسفات والنظريات الاجتماعية التفكيكية الفرنسية التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات، مثل أفكار ميشال فوكو ولويس ألتوسير وجاك دريدا وكتابات بيار بورديو وتحليلية جاك لاكان، أي ما سمي في الأدبيات الجامعية الأميركية «النظرية الفرنسية» french theory.
ما تشير إليه هذه الأطروحات هو ثلاث أفكار أساسية هي: الترابط العضوي بين أنماط التشكل الخطابي واستراتيجيات التحكم والسلطة، وعدم الحياد الموضوعي للممارسة العلمية التي هي ضرب من ضروب الصراع الاجتماعي على الأرضية النظرية، وقيام الدولة والسلطة السياسية على علاقات القوة والضبط والرقابة في ما وراء أبعاد وموازين الشرعية القانونية والمدنية.
ما حدث هو أن هذه الأفكار التي ظهرت من داخل النظرية النقدية الأوروبية، تحولت إلى مقاييس نظرية مؤسسة للاتجاهات ما بعد الاستعمارية في محاربتها للمركزية الغربية التي تستخدم الأدوات المعرفية للتحكم والتسلط. بيد أن هذه المقاربة تحولت في الأعوام الأخيرة إلى مادة أيديولوجية وتعبوية لنضالات الحركات الحقوقية والمدنية في الدول الغربية نفسها، ولم تعد محصورة في الاتجاهات السياسية التحررية في عالم الجنوب (الهند وأميركا اللاتينية خصوصاً).
ولقد بدأ توظيف هذه الأفكار في التيارات اليسارية، أساساً في الحركة النسوية والجماعات المثلية والاتجاهات المدافعة عن حقوق الأقليات والمهاجرين، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تمثل هذه التيارات مكوناً أساسياً من مكونات الحزب الديمقراطي في نسخته الجديدة.
إلا أن هذه الأفكار ذاتها انتقلت إلى الحقل اليميني الشعبوي، وأضحت من الشعارات والمقولات الأساسية للدفاع عن «المجموعات الأصلية» و«الهويات القومية النقية»، وتركز تأثيرها في القاعدة الاجتماعية التقليدية لليسار، أي الوسط العمالي والزراعي الريفي. 
ولقد انفجر مؤخراً الصراع بين الاتجاهين الشعبويين اليميني المحافظ واليساري الراديكالي على نفس الأرضية، أي خطاب الهوية المغلقة والمعرفة الموجهة، في الوقت الذي ضعف فيه الخطاب الليبرالي النقدي الذي قام على فكرة الهوية المفتوحة والكونية العقلانية والمساواة الحقوقية.
إن لجوء بعض الكتاب العرب في أيامنا هذه إلى موجة ثقافة الإلغاء باسم حقوق التميز القيمي والمعرفي والممارسة النظرية المستقلة، يفضي في الغالب إلى القضاء على المنهجية العلمية النقدية والموضوعية التحليلية البرهانية، بحيث تتساوق الأفكار وتتساوى الأطروحات والنظريات، وتغيب الحقيقة المجردة من الأهواء والأغراض.
ما يتعين تأكيده هو أنه إذا كان من الصحيح أن العلوم الإنسانية لا يمكن أن تصل إلى حقائق موضوعية نهائية، بل أقصى مرادها هو تقديم نماذج تحليلية ملائمة ودقيقة، وأن التمييز الصارم والحاسم بين المفاهيم الإجرائية والخيارات القيمية ضرب من التعسف.. فإن نقل الصراعات الأيديولوجية إلى ساحة البحث العلمي يؤدي إلى نسف مشروع العلوم الإنسانية في أصله الذي هو النقد الموضوعي للمسلمات والأحكام المسبقة التي تكرس الهيمنة والاستغلال.