الحديث حول الاتفاقية الاتحادية، يمكن له أن يطول، لذلك فإن من الحكمة الحديث عنها في إطار كونها مخرجاً لسياسات ناضجة تركت أثرها القوي في تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة وبنائها كدولة عصرية طموحة لتحقيق الإنجازات وعلى نمط التنمية التي سادت خلال الخمسين سنة المنصرمة.
لقد قيل الكثير عن الاتفاقية الاتحادية والدستور الذي صاحبها وطبيعة الدولة والمجتمع الذي قام بناءً عليها، والعديد من الكتاب والمفكرين أطلقوا عليها شتى النعوت، وألصقوا بها مختلف الصفات، سواء في الخليج العربي أو العالم العربي، أو على الصعيد العالمي.
ولكن في تقديري، وما أود الإشارة إليه بالتحديد، هو أن الاتفاقية الاتحادية التي أبرمت في نهاية عام 1971 لم تكن عملاً أيديولوجيا أو معتقداً أو تكتلاً سياسياً وعسكرياً موجهاً للتوسع الخارجي، أو استكشافاً تم الجري وراءه في فراغ، أو تمرد أو ثورة ضد محتل خارجي.
وعلى ضوء ذلك يتبادر إلى الذهن فوراً سؤال منطقي: فما هي إذاً؟ بإعادة استذكار أحداث تلك الفترة، فإن ما يجعل الاتفاقية الاتحادية حاضرة في الأذهان ويتم تذكرها باستمرار، وكحدث شديد الأهمية في تاريخ دولة الإمارات، هو أنها تشكل أمرين متلازمين: كونها رمزاً وطنياً و دليلاً على نضج قيادة وشعب الإمارات، وقدرتهم على حل مشاكلهم عبر السياسة عوضاً عن الأيديولوجيا أو الاختلاف. مع كونهم أرباب سياسة حكماء، الآباء المؤسسون حتماً كانوا لا يثقون كثيراً بألاعيب السياسة أو العنف في حل مشاكلهم. مهما كان نوع التزاماتهم الواقعية، كانوا يؤمنون بقوة المنطق والقانون الطبيعي لحل مشاكل المنطقة كافة.
خلال فترة التفاوض ما بين 1968 و1971، كان أهل المنطقة، قيادة وشعباً يراقبون ما كان يجري في المنطقة العربية وجوارها الجغرافي من أحداث جسام، والتي كان الكثير منها ناتج عن التصلب الأيديولوجي - السياسي، ما كان يضع خطوطاً واضحة تحت عقم التشبث بالأيديولوجيا السياسية، التي كانت مسؤولة بشكل واسع عن كل من العنف الدائر في كل مكان وعن النتائج الكارثية التي تمخضت عن ذلك.
وبشكل مناقض، الاتفاقية الاتحادية لم تكن عديمة الثقة في السياسة، أو كانت تفتقر إلى أنماط من الاستراتيجيات السياسية، لأنها هي ذاتها شأن سياسي، فإذا ما كان يوجد التزام فيها ومن جانب الذين توصلوا إليها، فقد كان التزام بالسياسات الناضجة، لذلك فإن السياسات الناضجة والرصينة ليست في وسعها أن تكون أيديولوجية أو طوباوية، فالأيديولوجيون والطوباويون هم حتماً لا سياسيين إن لم يكونوا كارهين للسياسة ولا يهمهم سوى تحقيق ما يريدون في الوقت الذي يشاؤون ودون شك أن هذا أمر بعيد عن السياسة لأنها فن الممكن.
النضج السياسي، من جانب آخر هو القدرة على الاستجابة للآخرين وللأحداث دون جعل المطالب الذاتية هي روح الفيصل الخاص بالتصور والسلوك.
إن السياسات الناضجة تدخل فيها الموازنة والحلول الوسط والدمج، فهي لا يمكن لها أن تكون سياسات أيديولوجية صرفة تبالغ في أهمية الذات على حساب الآخر.
لذلك فإن الاتفاقية الاتحادية، كانت نضجاً سياسياً بهذا المعنى، لأنها أوجدت حلولاً سياسية وليست أيديولوجية للمشاكل الخطيرة التي كانت تواجهها المنطقة. كانت الاتفاقية الاتحادية بحثاً وسعياً عن حلول مقبولة للمشاكل القائمة والمتوقعة.
وفي هذا السياق لا يمكن للمرء أن ينفي أهمية الأيديولوجيين والمنظرين للاتفاقية الاتحادية وحقيقة في الحياة السياسية لكل أمة، فهم مهمين في نموها وتطورها، لكنهم لا يمكن لهم أن يكونوا هم الذين يوجهونها.
بعضهم كان غير متفائل بالمستقبل، وآخرون متحفظون على شيء من بنودها، وآخرون غير مدركين لعمقها المستقبلي ولعقلانية البرنامج الذي ترسى له، لكن أولئك الذين قاموا بالتصديق عليها ووقفوا يدافعون عنها بصلابة خدموا هذا الوطن بصدق وإخلاص من خلالها، لأنها كانت ما كانت عليه، وليست عودة إلى الوراء من منطلق لا عقلاني أو التطلع إلى طريق طوباوي يوصلهم إلى المستقبل.
كانت مشروعاً سياسياً عقلانياً ربط بين القوى السياسية ضمن روح من النضج السياسي، هكذا كانت الاتفاقية الاتحادية ولا تزال.
* كاتب إماراتي