أثارت زيارة البابا فرنسِس للعراق عدة مشكلاتٍ حارقة. ومن بين تلك المشكلات الصوت الغائب للمسيحيين العراقيين ومسيحيي الشرق الأوسط. والواقع أنّ الفظائع التي جرت على مسيحيي العراق وسوريا فيما بين العامين 2014 و2018 من جانب تنظيم «داعش» الإرهابي، أيقظت لدى المؤسسات والهيئات التي ترعاها دولة الإمارات العربية آذاناً وعقولاً سامعةً ومعتبرة. ففي حين بادر الأزهر من خلال مجلس الحكماء لعقد مؤتمرٍ عام 2016 للمواطنة والعيش معاً، دعا إليه العشرات من المسيحيين العرب والأزيديين وجماعات أُخرى، وصدر بنهايته إعلانٌ يمنع استخدام مصطلح الأقليات وحقوقها، ويهدف للخروج من مسائل الرعاية والحماية إلى آفاق المواطنة، بادر منتدى تعزيز السلم في أبوظبي، بقيادة العلاّمة الشيخ عبد الله بن بيه، إلى عقد مؤتمرٍ واسع في مراكش بالاشتراك مع وزارة الأوقاف المغربية، وبرعاية جلالة الملك محمد السادس بين 25 و27 يناير 2016، حضره زُهاء مائتي عالم وشخصية من المسيحيين والمسلمين وعدة ديانات أُخرى، من المشرق والمغرب وأوروبا وأميركا.
وتضمَّن إعلان مراكش عدة أُمورٍ مهمةٍ تأتي في مطلعها الإدانة الشديدة لأفاعيل المتطرفين والإرهابيين باسم الدين. ويعتبر مطلع الوثيقة أنّ الوقائع الفظيعة وغير الإنسانية للأحداث ضد سائر الأديان القديمة أمر لا يدعو للاستنكار فقط، بل وللمراجعة وللاعتبار، وإعادة تأسيس العيش المشترك على أُسُسٍ شرعية وعريقة. فالمواطنة الضامنة للحقوق الأساسية للناس في الدول الوطنية المعاصرة ليست نتاجاً وارداً على المسلمين، وصارت من ضرورات العصر، بل هي أيضاً موروثٌ عريقٌ من مواريث رسولنا صلوات الله وسلامه عليه في كتاب المدينة أو عهدها. فقد وضع الرسول نصاً دستورياً هو نتاج عقد اختياري تأسيسي لمجتمع جديد، ودولة وطنية جديدة، بين الفئات العائشة بيثرب (والتي أطلق عليها رسول الله اسم المدينة ربما في نفس العام). والفئات التي يحضنها الاجتماع الجديد هي أهل يثرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم، والمهاجرون إليهم من مكة وغيرها، وجماعات من يهود يثرب، وبعض ممن لم يعتنق الإسلام لكنهم أرادوا البقاء والعيش مع الفئات الأُخرى. نص العقد والعهد في مقدمته على أنهم على تعددهم الإثني والديني والقبلي هم «أمةٌ واحدةٌ من دون الناس»، وهم يتساوون في الحقوق والواجبات، مع الاعتراف بتعدديتهم وبحريتهم في الاعتقاد، وحريتهم في الحركة، والتزامهم بالتناصر تجاه الخارج إذا أراد الاعتداء عليهم. 
العلاّمة ابن بيه اعتبر هذه الوثيقة لهذا العيش المشترك، تجربة عريقة في المواطنة، وتستحق الاعتبار والاقتداء. الاعتبار بمشروعيتها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أسسها واشترع لها. والاعتبار بأنها مجتمع حقوق أساسية، فيما يشبه دول المواطنة اليوم. والاعتبار بتعدديتها، لأن الوثيقة النبوية تقول بذلك في الدين وفي الموقع الاجتماعي الحر للأفراد والجماعات، وفي التساوي في المسؤولية. 
وما نبَّه إليه إعلان مراكش، باعتباره تجربة كتاب المدينة نموذجاً خالداً لدولة وطنية، عاد في حلف الفضول الجديد فأعطاه قيمته الأخلاقية العليا ضمن الدين الإبراهيمي، وضمن مقولتي التضامن بين الناس والخير العالمي. وهو الأمر الذي تأكَّد وساد في وثيقة الأخوة الإنسانية الصادرة عن شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان بأبوظبي برعاية الشيخ محمد بن زايد في 4 فبراير عام 2019.
إنّ التحول الكبير الذي يقوده البابا فرنسيس في العلاقات بين الدينين الكبيرين، يتلاقى مع التحول البارز والمستمر الذي يقوده كبار رجالات الفكر الإسلامي، والمؤسسات الإسلامية انطلاقاً من دولة الإمارات، لاستعادة السكينة في الدين، ونصرة الدولة الوطنية، دولة المواطنة، وتصحيح العلاقات مع العالم ودياناته وثقافاته. وهكذا لا يعود صوت الآخر المسيحي وغيره ضعيفاً ولا غائباً. وهذا هو كلّيُّ الزمان في منظومة العلاّمة ابن بيه الفقهية والفلسفية.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية